أخبار

ذكريات أليمة وأحلام محطمة

بقلم السيدة نهلة مهاج

        كريمة الشهيد علال مهاج المتوفى بتازممارت

إهـــداء

إلى روح أبي رحمة الله عليه الذي لم تشأ الظروف والأقدار أن نعيش في كنفه وأن ننهل من عطفه وحنانه و تجاربه وأن تتقوى شخصيتنا بوجوده ومساندته وربما يكون لنا مستوى معيشي أفضل بكثير عما عشناه رغم أن ما كابدناه هو من صقل شخصيتنا وأعطانا دفعة للتشبث بالأخلاق والاستقامة والعمل الجاد وعدم الاستسلام ،

إلى أمي العزيزة المرأة العصامية التي أتمنى لها الصحة والعافية وطول العمر التي تحملت الأمرين من أجل السهر على تربيتنا ، كافحت، لم تسأم ولم تمل ، رغم صعوبة المحنة ونظرة المجتمع ،

إلى زوجي الذي ساندي وكان لي العون والسند ولم يبخل علي يوما بعطائه وسخاءه،

إلى أبنائي الذين أتمنى أن أكون قد وفقت في تربيتهم وتوجيههم وأتمنى لهم النجاح والمستقبل الزاهر والحياة السعيدة،

إلى أختاي العزيزتين على قلبي إلهام وحنان وأزواجهما وأبنائهما اللذين أكن لهما كل الحب والوفاء ، 

 إلى جميع أفراد عائلتنا وأقربائنا وجيراننا وجميع معارفنا الذين عاشوا معنا وآزرونا في خضم الأحداث ومختلف المحطات ،

إلى أصدقائي وزملائي الأعزاء الذين أحسست بينهم بالتقدير والاحترام لشخصي وبأنهم عائلتي وأسرتي الثانية.

إلى أصدقاء أبي في المحنة الذين عاشوا المأساة وكتب الله لهم النجاة بأعجوبة من موت محقق ولروح من توفوا منهم بجحيم تازمامرت الرحمة والمغفرة فهم شهداء عند ربهم يرزقون,

 

 

 كانت حقا أياما عصيبة أتذكرها بألم وحصرة ، كنت طفلة صغيرة كبرت معي المأساة، مأساة حقيقية ومؤلمة ، تحكي لنا والدتي التي أعتبرها ملاكا ، امرأة عظيمة ، إنسانية عالية، حنان ، عطف ، كفاح ومكابدة ، لم تستسلم رغم صعوبة المحنة التي مرت بها ، أصبحت الأب والأم في آن واحد ، وهي في مقتبل العمر وفي ريعان شبابها ، وهي التي تزوجت ابن عمها وهي ابنة 17 عاما من عمرها ، تركت أقسام الدراسة ، ليس لأنها تعثرت في دراستها بل كانت متفوقة ، نبيهة ونجيبة ، في ذاك الزمان ، كانت تسود ثقافة مختلفة عن الوقت الحالي كانوا يعتبرون مكان المرأة في البيت وتربية الأبناء والسهر على بيتها وزوجها ، شاءت الأقدار بعد عودة أبي من الديار الأمريكية أن تلتقي به صدفة هي ووالدتها في طريق رجوعها من عند أختها بمكناس وأن يعجب بها ويطلبها للزواج ويقيما عرسا أسطوريا لا زال يتكلم عليه كل من عاين تلك الفترة بإعجاب شديد ،كانت ثمرة هذا الزواج ثلاث بنات ، كنت الكبرى وأختي إلهام التي ازدادت من بعدي ، أما أختي حنان فتركها حاملا بها في شهرها الثالث. فكيف لامرأة في مثل سنها وحاملا أن تتلقى ذات يوم خبر نزل كالصاعقة ، خبر زلزل أركان أسرة بأكملها ، إنه الأب يا سادة ، وماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لأسرة فتية ناشئة ، أم في زهرة الشباب وطفلتين صغيرتين بين يديها لم يكملا عامهما الثاني وحاملا في الشهور الأولى، فكيف لها أن تتلقى هذا الخبر !!!!؟؟ وكيف لها أن تتبث في مثل هذه الظروف المأساوية !!!!؟؟ تركها يوم الواقعة والحناء في شعرها واعدا إياها أنه عندما سيرجع في المساء بعد العمل سيحملها إلى الحمام هي وابنة أختها مليكة التي كانت تدرس عندها وتؤنس وحدتها في غياب زوجها. فكيف له أن يعلم بما سيقع له !!؟ يخرج لعمله الاعتيادي وتعطى له أوامر عسكرية بالتحليق بالطائرة ،رفقة صديقه المرحوم المفضل ماكوتي رحمة الله عليه ، في الأجواء المغربية ، لاستقبال الملك كالعادة والتعبير بالألعاب البهلوانية تعبيرا عن تحية الملك ويجد نفسه دون علمه مورطا في محاولة انقلابية لم يكن يعلم بها أصلا وبريء كل البراءة منها وحكم عليه بعشرين سنة وهو ابن 32 ربيعا ، في ريعان الشباب وقوة العطاء، شاءت الأقدار أن يلتحق بصفوف القوات المسلحة الملكية التي اختارها رغم نجاحه في مباريات أخرى وفضلها على غيرها من الوظائف، في ذلك اليوم العصيب رأت أمي حركة غريبة تعم أرجاء العمارة التي يقطن بها العسكريين كسكن وظيفي عمت حركة غريبة وغير مألوفة ، الناس ينزلون إلى ساحة العمارة ، وكلام غير مفهوم وضجيج بعد ذلك وفي خضم الحيرة والتساؤلات سيصل الخبر عبر وسائل الإعلام خبر كان بمثابة الطامة الكبرى بعد ذلك أتى الحراس ونزلت القوات وطلب من والدتي عندما طرق الباب وهم في حالة ذهول وخوف من هول الفاجعة أن يخرج الضيوف ولا يبقى إلا أصحاب المنزل وأن لا يدخل أي كان أو يخرج ، كان حقا كابوسا مزعجا ولحظات عصيبة ولم يصدقوا الخبر وقالوا أن هناك خطأ ما وأن الأمور سترجع إلى طبيعتها لكن هيهات ثم هيهات ، انقلبت فيها حياتنا رأسا على عقب وصارت أحلامنا رمادا وحملنا نعشها قبيل بدايتها ، سيودعون بالسجن المركزي بالقنيطرة بعد سلسة من الاستجوابات المضنية وبعد ذلك المحاكمة التي رأت أمي من بعيد وعلى مسافة كبيرة أطياف أبي حيث لا يظهر لها إلا ملامحه من بعد المسافة ، مرت تلك المحاكمات الماراطونية وهي حامل في شهرها الثالث تبحث وتطرق جميع الأبواب للقائه والتحدث إليه واستفساره عما وقع دون جدوى لقد كانت الحراسة مشددة ولا يسمح بالاقتراب منهم أو زيارتهم ، فقط أحد الحراس بالسجن المركزي بالقنيطرة الذي كان يقطن بجوار مسكن جدي رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه من حمل قطعة من الورق مكتوب عليها بخط يد والدي أنه بريء كل البراءة مما نسب إليه وطلب من أمي أنه في حالة ازداد ولد أن تختار له من الأسماء “عبد الحق” وطلب منها في الرسالة أن ترسل له رفقة الحارس بعض الأغراض : ملابس مصحف …… وبأن تذهب للسكن عند أبيه ،كانت الأحداث الأليمة تتوالى والقلب يعتصر ويعم الحزن والأسى بين أفراد العائلة ، كانت حقا مرحلة صعبة، ما على الزوجة إلا أن تستسلم للقدر وترضخ للواقع وأن تنحني لهذه النكبة وهي يتيمة الأب ومن أسرة متوسطة ، فبعد أربع سنوات من الزواج قضتها مع الزوج ستجد نفسها مرغمة في معترك الحياة دون سند ولا معيل ولا من ستعتمد عليه في تربية بناتها ستذهب للعيش مع عمها الذي هو أب زوجها، ستصبر على قسوة الحياة وعلى قلة ذات اليد، فبين ليلة وضحاها ستجد نفسها قد تغيرت حياتها وأحلامها وأمنياتها ، ستصطدم بواقع مغاير تماما لما كانت تعيشه وما كانت تحلم به فما عليها إلا الصبر والجلد في غياب الزوج الذي كسر ظهرها من أجل تربية أطفالها ولم تعد تطمح إلا في تربية أطفالها والسهر عليهم حتى تراهم في أحسن حال وتصب أحلامها في بناتها وتتمنى نجاحهم ، ضحت بالغالي والنفيس من أجلهم كانت أمها الوحيدة التي كابدت معها وساندتها في هذه الفترة العصيبة ، فمساعدة العائلة تبقى ظرفية والكل يروح إلى حال سبيله مع مشاغل الحياة ومتطلباتها ، وجدت في أمها المعين والسند ، ساعدتها في تربية بناتها ، كانت فرحتها تتوالى بنجاحاتهم الدراسية وهم يكبرون أمام عينيها وتقول يوما ما سيرجع الزوج إلى أحضان أسرتها ، لا بد الليل أن ينجلي ولا بد للغيوم أن تزول ولا بد أن يأتي الفرج، كانت بين الفترة والأخرى تذهب للسجن المركزي بالقنيطرة للبحث عن زوجها وأخباره لكنهم كانوا يقولون لها بالحرف الواحد “أنه لا يخبر بشيء” فقد تم حملهم في ليلة مظلمة معصوبي الأعين مكتوفي الأيدي إلى مكان غير معروف تبين فيما بعد أنه سجن تازمامارت ، وفي كل عملية بحث ترجع خاوية الوفاض بخفي حنين تجتر ماضيها الأليم وتتذكر المأساة وتمر أمام عينيها ذكريات الماضي الجميلة كيف أنه يشتري مؤلفا قبل ولادتي ، والذي تمت ترجمته إلى 16 لغة وكذلك للغة براين باللغة الفرنسية عن تربية الأبناء لكاتبه Docteur B. Spock بعنوان :      

                      “Comment soigner et éduquer son enfant”

الذي ما زلت أحتفظ به وكيف يحمل ابنته بين يديه ويهيئ لها الرضاعة ويقوم بإرضاعها ، كيف أنه كان يقوم من فراشه في الليالي الباردة ليحملها بين يديه لكي لا تبكي ، تتذكر كذلك عطفه وحنانه عليها ، كان نعم الزوج والصديق ونعم الأب ، لكن شاءت الأقدار أن تخطفه ظلما وعدوانا ، كان شابا في مقتبل العمر يافعا ومثقفا ، طيب السيرة، والسلوك إنساني إلى أقصى درجة ، محبوب من عائلته وجيرانه وأصدقائه وكل معارفه لم تعد تعرف شيئا عن مصيره ولا مكان تواجده ماتا والديه حصرة وحزنا عليه ماتا ولم يعرفا مصيره ومكانه.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!