الحفاظ على منظومة القيم في ظل التحديات المعاصرة
علاش بريس :في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم اليوم، تجد الأسرة نفسها في مواجهة تحديات غير مسبوقة، حيث لم تعد الهجمات على القيم والتقاليد مسألة فردية أو محدودة.
أصبحت الأسرة كيانًا مستهدفًا ضمن سياق عالمي يتواطأ فيه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وأحيانًا حتى مناهج التعليم على تمرير قيم جديدة لا تتفق دائمًا مع هويتنا وثقافتنا. لقد أصبحت الحرب على الأسرة عالمية، تُدمر فيها القيم وتُهتز الثوابت تحت ضغوطات الحياة المتزايدة وتهاون البعض منا عن دوره الحقيقي.فكل رجل وامرأة اليوم يجدون أنفسهم أمام مسؤولية تتجاوز حدود أدوارهم التقليدية؛ إنها مسؤولية الحفاظ على بيوتهم وصلاح أولادهم. في خضم هذا الزخم، تضعنا ضغوطات الحياة والانشغالات اليومية في موقف صعب، حيث يصبح من السهل أن يتسلل الإهمال إلى داخل الأسرة، فتتراجع الأولويات الأسرية لصالح السعي نحو العمل أو تحقيق الرغبات الشخصية. لكن هذا التراجع له ثمن؛ فالأطفال، الذين يمثلون الأجيال الصاعدة، يقفون كضحية صامتة لهذا الانشغال والتهاون.
الأطفال اليوم يواجهون ضغوطًا قد لا يدركها الكثيرون، فالتكنولوجيا الحديثة، على الرغم من فوائدها، تحمل تأثيرات ثقافية واجتماعية واسعة النطاق. يتعرض الصغار لمحتويات لا تتناسب مع أعمارهم أو ثقافتهم، ما قد يؤدي إلى اهتزاز في هويتهم وتماسكهم الأخلاقي. إنهم مهددون بفقدان القدرة على التمييز بين القيم الأصيلة وتلك الدخيلة، مما يعرضهم إلى مشكلات سلوكية وتغييرات في مفاهيمهم، بل ويجعلهم في أحيان كثيرة يعيشون في صراع داخلي بين ما يرونه وما يتعلمونه في بيوتهم.وللخروج من هذا المأزق، لا بد من أن يتحد الوالدان لخلق بيئة أسرية متماسكة، تكون قادرة على تقديم نماذج إيجابية وتجارب تُعزز من ثقة الأطفال في قيمهم. إن التحصين الفكري هنا يصبح ضرورة لا غنى عنها، حيث يتوجب على الأهل أن يكونوا على دراية بما يتعرض له أبناؤهم وأن يتخذوا خطوات عملية لتحصينهم، سواءً عبر التوجيه والتثقيف، أو من خلال مراقبة نوعية المحتوى الذي يتعرضون له. وهذا لا يعني الرقابة الصارمة التي تنفّر الطفل، بل المراقبة الذكية القائمة على الحوار المستمر والفهم العميق لما يواجهونه.و في خضم هذه المعركة، يظل الحوار الأسري أحد أقوى الوسائل التي يمكن أن تحافظ على الترابط الأسري، إذ يحتاج الأطفال إلى شعورهم بأنهم مسموعون ومقدَّرون. يجب أن يشعروا بأن لديهم مكانًا آمنًا يعبرون فيه عن أفكارهم وتساؤلاتهم، وبأن الأسرة ليست مجرد مكان للسكن، بل هي كيان حي يحميهم ويعزز من قيمهم. كما أن الانخراط في أنشطة مجتمعية، كالعمل التطوعي أو المشاركة في فعاليات تروج للخير والقيم، يعزز من إدراك الطفل لدوره في المجتمع ويُرسخ من قيمه.
هذه هي المعركة التي ينبغي خوضها اليوم؛ ليست معركة مدافع وسيوف، بل جهاد من أجل القيم. الأسرة هي القلعة، والجميع مدعو للوقوف صفًا واحدًا للحفاظ على تماسكها. كل رجل وامرأة، كل أب وأم، يتحملون مسؤولية هذه القلعة، لأنها -لو علموا- إحدى أهم الحصون التي يجب أن تقف صامدة في وجه التحديات. يستدعي هذا الجهاد الصامت الذي نخوضه اليوم صبرًا وتضحيات، فهو جهاد يتطلب الاستمرارية والعمل اليومي لبناء حصانة نفسية وفكرية داخل كل فرد في الأسرة. فالأسرة، حين تكون مترابطة ومبنية على أسس من القيم المشتركة، تصبح حاجزًا قويًا في وجه التيارات الجارفة التي تحاول اختراقها. وتلك التيارات لا تأتي دائمًا بشكل مباشر؛ بل تتسلل من خلال تفاصيل الحياة اليومية، في البرامج التلفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانًا في صداقات جديدة يكوّنها الأبناء دون إدراك لآثارها.
و يتحتم على الأهل أن يكونوا يقظين دون أن يكونوا مفرطين في السيطرة، فالتوازن هنا هو المفتاح. لا يكفي أن نفرض القيم على أبنائنا، بل يجب أن نقدمها لهم كنموذج يُحتذى. فالأطفال يتعلمون بالقُدوة أكثر مما يتعلمون بالتوجيه، وعندما يرون في آبائهم وأمهاتهم أناسًا يعيشون تلك القيم بصدق ووعي، يزداد إيمانهم بها. وهذا يتطلب من الوالدين تحمل مسؤولية تطوير أنفسهم أولًا، والعمل على فهم احتياجات أبنائهم النفسية والفكرية، والتفاعل معها بمرونة ووعي.
ليس من السهل أن نقف ثابتين أمام موجة التغيير التي تشهدها القيم والأخلاق في عصرنا هذا، لكننا نملك القوة للقيام بذلك. ففي نهاية المطاف، يبقى الأمل معقودًا على هذه القلاع الصغيرة التي نبنيها في بيوتنا. إن كل لحظة نقضيها في تعزيز الثقة بأبنائنا، وكل كلمة صادقة نُعبّر بها عن حبنا ودعمنا لهم، وكل خطوة نقوم بها لتوجيههم نحو الطريق الصحيح، هي لبنات أساسية في بناء مستقبلهم ومستقبل مجتمعاتنا.قد يكون الحفاظ على الأسرة صعبًا، لكن الله في عون الأجيال الصاعدة والمقبلة، كما هو في عون كل من يبذل جهدًا للحفاظ على هذه القيم العظيمة. لنكن مدركين لأهمية هذا الجهاد، ولنضع نصب أعيننا أن الأسرة ليست مجرد مكان للإقامة، بل هي مركز للنمو، وموطن للقيم، وحصنٌ في وجه كل تهديد.