أخبارجهاترأيسياسةصحافةفن وثقافةمجتمع

“الحفاظ على نزاهة الانتخابات: تحديات المجتمع القبلي بين القيم والضغوط السياسية”

افتتاحيتنا اليوم: الحفاظ على نزاهة الانتخابات في ظل تحديات المجتمع القبلي

مع اقتراب موعد الانتخابات، تتصاعد وتيرة الحملات الانتخابية في المجتمعات القبلية، حيث يتحول البحث عن أصوات الناخبين والناخبات إلى معركة حامية الوطيس. في هذه الأجواء المشحونة، يُصبح كل شيء مباحًا في سبيل استمالة الجماهير ودفعهم إلى صناديق الاقتراع، مما يطرح تساؤلات عميقة حول تأثير مفهوم العار في هذا السياق.
في المجتمعات التي ترتكز على القيم القبلية، يُعد العار أحد المحددات الأساسية للسلوك، إذ يتحكم في خيارات الأفراد ويقنن علاقاتهم الاجتماعية والسياسية. العار هنا ليس مجرد شعور سلبي أو وصمة اجتماعية، بل هو منظومة قيمية متجذرة تحكم العلاقات والولاءات داخل القبيلة، وتحدد حدود المقبول والمرفوض في السلوك. هذا المفهوم العميق للعار ينبع من الإنسية، أي ما يجعل الإنسان إنسانًا في نظر مجتمعه، حيث يمثل العار مقياسًا دقيقًا بين الطهر والدنس، الشرف والمهانة، ويُعتبر من العهود التي يلتزم بها الفرد للحفاظ على مكانته وكرامته الاجتماعية.
في السياق الأنثروبولوجي، يُنظر إلى العار كقوة تحكم سلوك الأفراد عبر آليات رمزية وطقوسية مثل القسم والعهود، التي تفرض ضمانات على المتعاهدين للحفاظ على الأمانة والذمة. هذه الضمانات تجعل العار عنصرًا إلزاميًا لا يمكن تجاوزه دون فقدان الكرامة والإنسية، وهو ما ينعكس في سلوكيات مثل الولاء القبلي والتضامن الجماعي، التي تتجلى بوضوح في المواقف الانتخابية حيث تُستخدم قيم العار لضبط مواقف الأفراد وتوجيه اختياراتهم السياسية.
من منظور السوسيولوجيا، يُميز مجتمع العار عن مجتمعات الذنب أو الخوف، إذ يعتمد على نظام قيم يربط الفرد بمجتمعه عبر مفهوم الشرف والعيب، ويعاقب كل من يخالف هذه القيم بالنبذ الاجتماعي أو حتى العقوبات الأشد. في هذه المجتمعات، يُعد الحفاظ على “ماء الوجه” رمزًا للشرف، وتعكير هذا الماء يعني سقوط الفرد في دائرة العار، مما يؤثر بشكل مباشر على سلوكه السياسي والاجتماعي. هذه الثقافة تنتشر في العديد من المجتمعات الشرقية مثل العربية والهندية، حيث يشكل العار أداة لضبط السلوك الاجتماعي والسياسي، ويُستخدم في الانتخابات كوسيلة للحفاظ على الولاءات القبلية والعائلية.
لكن مع دخول موسم الانتخابات، تتغير قواعد اللعبة، فتتداخل الضغوط السياسية مع هذه القيم التقليدية. يصبح العار في بعض الأحيان أداة ضغط تُستخدم لتوجيه الناخبين، حيث يُستغل الخوف من فقدان الشرف أو السمعة في القبيلة لدفع الأفراد إلى تأييد مرشحين معينين، حتى وإن كان ذلك على حساب قناعاتهم الشخصية. تبرز هنا حالة من الفوضى الأخلاقية التي تضعف من نزاهة العملية الانتخابية، إذ قد تلجأ الحملات إلى ممارسات غير أخلاقية كالترهيب أو الترغيب، مستغلة الروابط القبلية والعلاقات الاجتماعية لضمان الولاء.
يمكن فهم هذه الظاهرة من خلال عدسة الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا على أنها صراع بين القيم التقليدية التي تحكم المجتمع وبين متطلبات السياسة الحديثة التي تفرض ديناميات جديدة. العار، الذي كان في الأصل وسيلة للحفاظ على النظام الاجتماعي، يتحول إلى أداة ضغط سياسية تُستغل في موسم الانتخابات، مما يبرز تعقيدات العلاقة بين الهوية القبلية والعملية الديمقراطية.
إن الحفاظ على نزاهة الانتخابات في المجتمع القبلي ليس فقط واجبًا أخلاقيًا، بل هو أيضًا خطوة أساسية نحو بناء مجتمع أكثر عدالة وتمثيلًا حقيقيًا لمصالح أفراده. لذلك، من الضروري أن نعمل جميعًا على تعزيز الوعي بأهمية التصويت الحر والنزيه، ورفض كل أشكال الضغط أو الترهيب التي تستغل مفهوم العار لإجبار الناخبين على اتخاذ قرارات لا تعبر عن إرادتهم الحقيقية.
في هذا السياق، تبقى مسؤوليتنا مشتركة في مواجهة التحديات التي تفرضها الظروف الانتخابية، والعمل على خلق بيئة انتخابية تحترم القيم الاجتماعية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تضمن حرية التعبير والمشاركة السياسية الحقيقية. فقط من خلال هذا التوازن يمكننا أن نضمن أن تبقى الانتخابات فرصة حقيقية للتعبير عن الإرادة الحرة، بعيدًا عن الضغوط التي تفرضها ثقافة العار وسلبياتها على السلوك الانتخابي في المجتمع القبلي.

اظهر المزيد

حميد فوزي

رئيس التحرير
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!