
:في تاريخ المغرب العريق، لعبت الزوايا الصوفية دورًا بارزًا، ليس فقط في تعزيز البُعد الروحي والاجتماعي للأمة، بل كانت حصونًا للروح تحافظ على توازن الأمة بين سلطان السياسة وباطن العبادة.
تجلت هذه الزوايا كـ”حارس صامت”، لا تتنازع على سلطة دنيوية، ولا تسعى إلى جاه سياسي، وإنما تخدم الأمة من خلال التربية الروحية والتزكية، وغرس معاني الإخلاص والطاعة لله وحده في نفوس الناس. المشيخة الصوفية، في هذا السياق، ليست رخصة أو منصبًا يُمنح بقرار إداري، أو يُنتزع بظهير سلطاني، بل مقام روحي يختاره الله للعباد الصادقين، وتشهد له القلوب التي تذاقت ثماره، قبل أن تزكيه أي مؤسسة أو جهة رسمية.
يؤكد هذا التوجه التاريخي أن إمارة المؤمنين في المغرب، التي تمثل أعلى سلطة دينية وسياسية على حد سواء، لها مقامها الشريف كحامية للوحدة الدينية، لكنها لم تكن أبدًا سلطة تعين أو تعزل شيوخ التصوف، إذ إن الأسرار الروحية لا يمكن أن تخضع للبيروقراطيات الأرضية، ولا تُدار بمنطق الكرسي والمرسوم. هذه المؤسسة الشرعية التي تأسست على أسس دينية متينة، ولم يكن هدفها إدارة أو توظيف الطرق الصوفية، بل كانت تدعم الوحدة الوطنية، وتوفر الحماية للزوايا والرباطات، مما يرسخ علاقة التحالف بينها وبين المؤسسة الصوفية، لا علاقة التبعية والسيطرة.
على مدار التاريخ، وباشتراك مع قيام وترسيخ دولة الأشراف العلويين، تميزت هذه العلاقة بين إمارة المؤمنين والزوايا بالتحالف الواضح الذي يضمن استمرار الزوايا في أداء مهامها الروحية والتربوية بحرية واستقلالية. السلطان العلوي، باعتباره ولي أمر ديني وسياسي، قدم الحماية للطرق الصوفية، مؤكدًا على وحدتها تحت مظلة الشرعية التي توحد الأمة المغربية، وتبعد عنها كل أشكال التذرر والخلاف. وهذا البناء المؤسسي يتم من دون تدخل السلطان في تعيين أو عزل المشايخ، حيث يستند تكريس المشيخة إلى الاعتراف الروحي والسلوكي في حياة المريدين، لا على قرارات إدارية.
تزداد أهمية هذه العلاقة خصوصًا في فترات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، حينما ارتفعت أدوار الطرق الصوفية وكُتّابها في تعزيز الوحدة الوطنية وتنشيط الروح الجماعية للمقاومة. فإن تعاون الزوايا مع المخزن في مواجهة الاحتلال يبرز كيف أن العلاقة بين السلطة والزوايا كانت مبنية على تحالف استراتيجي يحقق مصلحة البلاد، بعكس تدخلات السلطات التي قد تقوض تلك الاستقلالية. ومع ذلك، شهدت بعض مراحل تاريخية تدخلات من السلطة في إدارة بعض الزوايا، لكنها ظلت استثناءات نادرة لا تمثل القاعدة الأساسية للعلاقة التقليدية.
حاليًا، في عهد السلطان محمد السادس، تستمر إمارة المؤمنين في لعب دورها كضامن للشرعية الدينية والسياسية في المغرب، حيث تعزز من حماية واستقلالية الطرق الصوفية دون أن تمارس أي رقابة بيروقراطية على المشايخ أو تعييناتهم. هذه الاستمرارية تعكس التوازن الحساس الذي يحافظ على دور الزوايا كمؤسسات روحية مستقلة تخدم الأمة، وتبقى في الوقت ذاته جزءًا من منظومة الشرعية الوطنية، بوصفها ركائز ثقافية وروحية تحت حماية إمارة المؤمنين.
على هذا النحو، تجسد إمارة المؤمنين في المغرب نموذجًا فريدًا عبر التاريخ، يعكس قدرة السلطة الدينية والسياسية على تأمين الاستقرار الوطني من خلال دعم الأبعاد الروحية والاجتماعية للزوايا الصوفية، دون استلابها أو إخضاعها للبُنى الإدارية والسياسية. إذ أن التوظيف السلطوي للمشيخة أو التلاعب بها ليس إلا تزويرًا لتاريخ التصوف المغربي وعلاقته المستقلة والراسخة بإمارة المؤمنين. فالشيخ الحقيقي لا يُعَرَّف، ولا يُعَيَّن، بل يُعْرَف بثماره الروحية والتربوية في حياة المريدين، وهذا هو سر بقائه وأثره الخالد في القلوب، مهما حاول البعض التغيير من خلال أوراق البيانات أو القرارات السياسية.
ينبغي إذًا الاعتراف بهذه العلاقة العميقة والمتوازنة التي تجمع بين استقلالية الروح، وحماية الوحدة الدينية والسياسية، باعتبارها الأساس الذي استند إليه المغرب عبر أزمانه في بناء دولة قوية، تتمسك بثوابتها الدينية، وتواكب تحديات العصر، محافظة على علاقة حب متجددة بين إمارة المؤمنين والزوايا الصوفية كركيزتين أساسيتين في نسيج الأمة المغربية.
لقد لعبت الزوايا الصوفية دورًا محوريًا في تقوية الشرعية السلطانية في المغرب عبر التاريخ، إذ لم تكن مجرد مؤسسات روحية أو تربوية فحسب، بل كانت ركيزة مهمة في بناء وتعزيز السلطة السياسية والشرعية الدينية للسلطان. نشأت الزوايا في فترة ضعف السلطات السياسية، خاصة في عهد الدولة الوطاسية، حيث اضطلع بعض شيوخ الصوفية وأصحاب الزوايا بأدوار دفاعية وروحية، قادت الشعوب إلى الجهاد ضد القوى الأجنبية التي هددت ثغور البلاد، مثل الاحتلال البرتغالي والإسباني. هذه الأدوار البطولية في المقاومة عززت من نفوذ الزوايا، مما جعلها قوة ذات تأثير سياسي واجتماعي، لا يمكن تجاهله، حيث تجمع حولها آلاف المريدين والأتباع الذين رأوا فيها رمزًا للثبات والدين والثقافة.
السلطان من جهته، اعتمد على هذا النفوذ الروحي والاجتماعي للزوايا، فعمل على تحالف استراتيجي معها، محافظًا على وحدته الدينية ومكتسباته السياسية، لكنه لم يكن يتدخل في تفاصيل إدارة المشيخة الصوفية أو تعيين شيوخها، حفاظًا على استقلاليتها الروحية، وهو ما يميز نموذج المغرب عن غيره من البلدان. في عهد الدولة السعدية، كانت الزوايا حلفاء طبيعيين للسلطان، حيث لعبت دورًا مركزيًا في دعم حكمهم وشرعيتهم، كما شهد التاريخ على مواقف الزوايا المختلفة التي ساهمت في تولية السلاطين، مثل الزوايا الدلائية والجزولية التي كان لها تأثير كبير على مسار الحكم.
هذا الدور المتنامي لم يحل دون وجود صراعات أحيانًا بين الزوايا والمخزن، خاصة حينما حاولت بعض السلطات تنظيم أو تقييد نشاطها، وهو أمر سبق وأن واجهته الزوايا بقوة خاصة عندما شعرت بأنها تمثل تهديدًا لشرعية الحاكم أو أن المهاجمة تهدف إلى تقويض نفوذها الاجتماعي. لكن العلاقات بشكل عام اتسمت بالتعاون والتكامل، حيث استفادت الزوايا من الدعم السلطاني في بعض الفترات من الإعفاءات والحماية، وقدمت بدورها خدمات اجتماعية وتعليمية وروحية انعكست إيجابيًا على استقرار الحكم.
على المستوى الاجتماعي، لم تقتصر الزوايا على البعد الديني، بل كانت تلعب دور المصلح الاجتماعي، إذ تكفلت برعاية الفقراء، حل النزاعات بين القبائل، نقل العلوم الشرعية، والتوسط في الأزمات المجتمعية، مما أكسبها احترامًا وشعبية كبيرة، دعمت بدورها سلطتها الروحية وقدرتها على تقوية شرعية السلطان الذي كان يحتاج إلى قوة دينية واجتماعية يتقوى بها في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
في المراحل الحديثة، بقيت الزوايا تحتفظ بهذه المكانة، حيث يمثل شيخ الزاوية عنصرًا روحانيًا قويًا يشكل حلقة وصل بين السلطة الدينية للسلطان وبين العوام، وتعكس هذه العلاقة استمرارية إسلامية مغربية خاصة، تعتمد على التوازن بين الاستقلالية الروحية للزوايا والتكامل السياسي مع السلطة، مما يضمن للسلطان شرعية دينية واجتماعية مستقرة، تُقوى بوشائج المحبة والاحترام التي تربط العرش بالزوايا عبر قرون.
لقد كان للجهاد، باعتباره أحد أركان الإسلام وأعظم العبادات، تأثير عميق على السلطة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي، وخصوصًا في المغرب، حيث ارتبط بوجود الزوايا الصوفية التي كانت تلعب دورًا أساسيًا في هذه المسيرة. الجهاد لا يُفهم فقط كقتال مسلح، بل كمجموعة واسعة من الأعمال والجهود التي تهدف إلى نصرة الحق وإزالة الظلم، سواء بالقوة أو بالحكمة والدعوة، وهو وسيلة لتحقيق العدالة ونشر السلام الحقيقي في المجتمع. في الزوايا المغربية، كان الجهاد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالدعوة والإصلاح الاجتماعي والروحي، حيث كان المجاهدون في هذه المؤسسات، ليسوا فقط مقاتلين، بل مربين لهمّة عالية، وصابرين على المشاق.
كان أثر الجهاد والزوايا على السلطة مزدوجًا، فعلى جانب، عززت هذه المؤسسات الروحية المشروعية الدينية للسلطان، إذ كانت الزوايا تملك ثقلًا شعبيًا وروحيًا قادرًا على تحفيز المجتمع ونشر معاني الولاء والطاعة، مما جعلها سندًا قويًا للسلطة الحاكمة. هذا الدعم المعنوي والروحي ساعد السلاطين على توطيد حكمهم، خاصة في أوقات الأزمات الحربية أو السياسية. من جهة أخرى، فإن الجهاد الذي قادته الزوايا، وخصوصًا في مواجهة الاحتلال والأساليب الاستعمارية، كان بمثابة عنصر موحد للشعب، دافع عن وحدة البلاد، وحافظ على النظام العام، وبالتالي كان ضامنًا لاستمرارية واستقرار الحكم.
علاوة على ذلك، ساهم الجهاد في تربية الأفراد على قيم العزة والكرامة والشجاعة، وبث روح المبادرة والعزيمة في النفوس، مما جعل المجتمعات المحيطة بالزوايا أكثر صلابة، واستعدادًا لمواجهة الصعاب والتحديات. هذه التربية الجهادية التي يقودها رجال الزوايا كشفت عن معدن الرجال الحقيقيين، وميزت بين الخلص الذين يضحون في سبيل الله وبين أولئك الذين يفقدون عزيمتهم في أوقات المحن. وبهذا، فإن الزوايا لم تكن فقط مراكز روحية، بل أيضًا حجر الزاوية في بناء مجتمع متماسك، وشعب مخلص للحاكم الشرعي.
كما ساعد الجهاد في تعزيز العقيدة الدينية ونشرها بطريقة ترتبط بالسلطة الشرعية، فكان السلطان يُنظر إليه كحامي الدين وراعي الجهاد المشروع، ما أكسبه شرعية دينية مهمة، وأدى إلى تعزيز مكانته أمام خصومه الداخليين والخارجيين. ومع تداخل الجهاد بالقضايا السياسية والاجتماعية، حافظت الزوايا على استقلاليتها الروحية، لكنها كانت في الوقت نفسه شريكًا مهمًا في المشروع السلطاني، لا من حيث الإدارة، وإنما من حيث التأثير الروحي والاجتماعي.
بشكل عام، يمكن القول إن الجهاد والزوايا معًا قدما زخماً قويًا للسلطة السياسية في المغرب، إذ وفرت الزوايا إطارًا روحيًا ومجتمعيًا لدعم الشرعية السلطانية، واحتضان الجهاد كوسيلة للدفاع عن الدين والوطن والحق، مما ساهم في بناء نظام سياسي مستقر وشرعي، يلتزم بالقيم الإسلامية، مع المحافظة على التوازن بين العزة الدينية والقوة السياسية.
تتمتع الزعامات الصوفية بتأثير قوي وواسع في تحركات الشارع، يعود ذلك إلى دورها الروحي والاجتماعي، والثقافي العميق في حياة الجماهير التي تتبعها. فالمشايخ والزعماء في الطرق الصوفية لا يقتصر تأثيرهم على البعد الديني فقط، بل يمتد إلى توجيه الجماهير في الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية. هذا التأثير ينبع من قوة الروابط الروحية التي تربطهم بالمريدين، إضافة إلى مكانتهم الاجتماعية واحترامهم الذي يمتد إلى مجالات متعددة في المجتمع.
تاريخيًا، لم تكن الطرق الصوفية مجرد حركة روحية منعزلة، بل أظهرت مرارًا حضورها القوي في الفضاء العام، خاصة عندما انخرطت في مقاومة الظلم والطغيان، أو أثرت في الحركات الاجتماعية والسياسية. بعض الزعامات الصوفية مثل الشيخ عبد الكريم المغربي في المغرب، والشيخ عبد القادر الجزائري في الجزائر، والشيخ محمد بن علي السنوسي في ليبيا، لعبوا أدوارًا قيادية في حركات المقاومة والجهاد، مما عزز مكانتهم وأثرهم في تحركات شعوبهم ودعم شرعياتهم السياسية.
في العصر الحديث، يستمر تأثير الزعامات الصوفية في تحركات الشارع، خصوصًا في مجتمعات مثل السنغال، حيث تلعب الطرق الصوفية دورًا هامًا في إحلال الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ففي تلك البيئة، يتصرف الزعماء الصوفية كوسطاء بين الدولة والجماهير، وينسقون بين مطالب المحتجين والمواقف السياسية، مما يساهم في حصر الاحتجاجات في حدود سلمية، ويمنع تصاعدها إلى عنف أو انفلات اجتماعي. كما يمتد تأثيرهم في التشجيع على المشاركة السياسية الإيجابية، والمساعدة في تهدئة النزاعات الاجتماعية.
يحدث هذا التأثير من خلال التعبير عن القيم الروحية التي تحث على السلام والوئام، إلى جانب العلاقة التي تبنيها الزعامات مع السلطة، حيث يستغلون موضعهم كقادة روحيين لتوجيه وتحشيد الجماهير، أو تهدئتها حسب مقتضيات الحال. ومع ذلك، فإنهم ليسوا موحدين في المواقف، فقد توجه بعض الزعماء الصوفية نسبتًا لدعم احتجاجات المطالبة بالإصلاح والديمقراطية، بينما يفضل آخرون المحافظة على الاستقرار، والدعم للسلطة القائمة، مما يعكس تنوعًا في مواقف الطرق الصوفية، حسب السياق السياسي والاجتماعي.
بهذا، فإن الزعامات الصوفية تشكل قوة معنوية واجتماعية فاعلة في تحركات الشارع، قادرة على تحويل التوترات إلى قنوات سلمية وبناءة، أو على العكس، تحريك الجماهير باتجاه دعم حركات التغيير أو المقاومة. ولا يمكن فصل دورها عن المشهد السياسي والاجتماعي في كثير من المجتمعات الإسلامية.
بدأت الطرق الصوفية تاريخيًا كمؤسسات روحية تتمحور حول الزهد والارتباط بالله، والانعتاق عن الهموم الدنيوية، حيث كان أتباعها يركزون على التربية الروحية والمجاهدة الداخلية، متجنبين الانخراط في الشؤون السياسية والدنيوية. لكن، مع تطور المجتمعات، وتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية، شهد دور الطرق تحولًا تدريجيًا من الزهد، والتصوف النقي إلى المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، وقد ظهر هذا التحول، خاصة في المغرب وغيره من الدول الإسلامية، حيث أصبحت الطرق الصوفية قوة مؤثرة في الفضاء السياسي.
هذا التحول لم يكن عشوائيًا، بل نتج عن أسباب ذاتية وموضوعية، منها قدرة بعض الزوايا على التعبئة الشعبية، واستقطاب الجماهير، مما جعلها أدوات فعالة يمكن توظيفها من قِبل السلطات الحاكمة، وأخرى من فقدان السلطة المركزية أحيانًا، مما دفع الطرق للتدخل بشكل أكبر في قضايا الحكم والسياسة. كما أصبح بعض المشايخ، والزعماء الصوفيين، يلعبون أدوارًا سياسية واضحة تتحكم في توجيه توجهات السكان، وتجميل صورة السلطة، أو تهديدها حسب المصالح والمواقف.
بالرغم من ذلك، حافظت الطرق على زهدها الروحي في كثير من الحالات، مستندة إلى مفهوم الجهاد الأكبر، وهو مجاهدة النفس، مع إدراكهم أن الانخراط في السياسة يجب أن يكون بحذر، وضمن الحدود التي لا تخل بالروحانية الأساسية للصوفية. وقد اعتبر بعض المتصوفة أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس، وأن طاعة الحاكم، إن كان ولي الأمر، أحد شروط الاستقرار الشرعي. ولهذا، فقد تباينت مواقف الطرق، حيث نجد بعضها داعمًا للأنظمة القائمة، والبعض الآخر ناقدًا لها، أو مشاركًا في حركات إصلاحية.
على سبيل المثال ،شهدت الزاوية البودشيشية في المغرب، تحولات تعكس من الارتباط بالروحانية والزهد إلى انخراط في رقعة السلطة الرمزية التي تمنحها الوجاهة الاجتماعية والسياسية. هذا يدل على تغير القيم والمعايير التي تحكم علاقة المريد بالزاوية، حيث أضحت الزاوية قوة سياسية قادرة على التأثير في صنع القرار، أو توجيه الرأي الشعبي.
في المشرق، شهد التصوف صراعات مختلفة فيما يتعلق بتعامل المتصوفة مع السياسة، من الرفض الكامل للمشاركة السياسية، إلى التعاون مع الأنظمة الحاكمة كوسيلة للحفاظ على الاستقرار، أو لتحقيق مصالح مشتركة. وقد سلكت بعض الطرق طريق التحالف مع الأنظمة العسكرية، أو العوائل الحاكمة، فيما استخدم بعضها الآخر موقعه كقوة روحية لمناهضة بعض السياسات، أو دعم حركات اجتماعية محدودة.
ومما سبق، يمكن القول إن الطرائق الصوفية لم تعد مجرّد مؤسسات تعبدية وزهدية منعزلة، بل تحولت عبر الزمن إلى قوى سياسية واجتماعية مؤثرة، توازن بين الحفاظ على هويتها الروحية، والانخراط في السياقات السياسية والاجتماعية المعاصرة، مما يشكل ظاهرة معقدة ومثيرة للجدل في الوقت ذاته داخل المجتمعات الإسلامية.
إن الزهد السياسي في التصوف، وهو موقف الامتناع عن الانشغال بالشؤون السياسية والدنيوية، هو جانب مركزي في التجربة الصوفية، يهدف إلى تعزيز الروحانية والقرب من الله، عبر مجاهدة النفس والابتعاد عن مزالق السياسة، ومحاسنها، ومساوئها. لكن هذا الموقف لم يكن خاليًا من النقد الفكري، الذي ينبع من عدة زوايا تتعلق بفعاليته، وتأثيره الاجتماعي والسياسي.
أولًا، يرى نقاد الزهد السياسي في التصوف أن الانعزال، والتجرد من السياسة، يؤديان أحيانًا إلى غياب الدور البناء، الذي يمكن أن يؤديه المتصوفة في إصلاح المجتمع، وحماية حقوق الناس، إذ قد يتحول الزهد المطلق إلى نوع من الانبطاح، والقبول بالوضع القائم، دون مقاومة الظلم، أو الفساد. هذا النوع من الزهد يرده البعض إلى التخلي عن مسؤولية المشاركة السياسية الفعالة، وبالتالي يضع التصوف في موقع سلبي، من حيث التفاعل مع الواقع الفعلي، والتأثير فيه.
ثانيًا، يرى بعض الباحثين أن تجنب السياسة من قبل التصوفين الفرديين، والمؤسسات الصوفية، قد استُغل من قبل بعض الأنظمة الحاكمة، التي وظفت التصوف للدفاع عن شرعيتها، عبر الترويج لفكرة الطاعة العمياء للحاكم، وعدم الخروج عليه، وهو ما يعزز من بقاء الأوضاع القمعية، ولا يفتح المجال لأي حراك سياسي إصلاحي أو ديمقراطي. وبهذا، يصبح الزهد السياسي أداة لتحقيق مصالح سياسية للسلطات، وليس تعبيرًا عن موقف روحي مستقل.
ثالثًا، يشير النقد إلى أن التصوف، رغم ميله للزهد، ليس ظاهرة محايدة فكريًا أو عقائديًا، بل يحمل داخله تيارات متعددة، بعضها يتبنى نهجًا مقاومًا وثوريًا في مواجهة الظلم والاستبداد، والآخر يفضل العزلة، والابتعاد عن السياسة. وهذا التنوع يفضي إلى غموض في الموقف السياسي للتصوف، ما يجعل منه ظاهرة معقدة يصعب حصرها في قالب واحد. كما يُنتقد الزهد، بأنه قد يغيب عن التصوف بعده الاجتماعي والسياسي، فلا يكون مجرد انكفاء على الذات، بل ضرورة التشبث بقيم العدالة، التي تتطلب أحيانًا المواجهة السياسية.
أما على المستوى الفكري، هناك جدل حول مدى إمكانية الجمع بين الزهد الصوفي، والمشاركة السياسية الحضارية، ويذهب بعض المفكرين إلى أن التصوف يمكنه أن يكون قوة إصلاحية فعالة، إذا ما تجاوز الانكفاء على الذات، واعتنق المواقف السياسية، التي تخدم الإنسان والمجتمع، ما يجعله ليس مجرد حالة روحية منعزلة، بل تيارًا ذا رؤية شاملة للحياة، تشمل الدين، والسياسة، والاجتماع.
بالمجمل، يمكن القول إن نقد الزهد السياسي في التصوف، لا يعني رفضه كأحد القيم الروحية المهمة، ولكن يدعو إلى توازن بين الزهد، والتفاعل الإيجابي مع الواقع السياسي والاجتماعي، حتى يظل التصوف قوة فاعلة في بناء المجتمع، وتحقيق الإصلاح، دون أن يفقد عمقه الروحي، وأصالته.
شهد التاريخ الإسلامي والعربي، أمثلة عديدة على زهاد، تقواهم وبعدهم عن الدنيا، لكنهم في آن واحد دخلوا ميادين السلطة، مما خلق تناقضًا بين الزهد والواقع السياسي. فمن أبرز الأمثلة التاريخية على ذلك، في صدر الإسلام، كان أبو مسلم الخولاني من الزهاد المعروفين بتقواهم وورعهم، لكنه لعب دورًا سياسيًا وعسكريًا بارزًا في الثورة العباسية، حيث قاد حركة إسقاط الدولة الأموية وإقامة الدولة العباسية. أبو مسلم مثال على زاهد متمرد دخل السياسة ليحقّق أهدافًا دينية واجتماعية عبر القوة السياسية.
كذلك الإمام علي بن أبي طالب، الخليفة الرابع، الذي كان نموذجًا لكمال الزهد والتقوى، لكنه تولّى الحكم، وتحمّل أعباء السياسة، والحروب، والفتن، محافظًا على نهجه الزاهد في العدل والتواضع، لكنه لم ينفصل عن الواقع السياسي والمعارك.
في التاريخ المغربي برزت زوايا صوفية مثل الزاوية الشاذلية، والجزولية، التي كان أقطابها من الزهاد والتقاة، إلا أنهم أصبحوا لاعبون سياسيون مهمون، حيث دعموا السلاطين العلويين، وساهموا في بناء الدولة، كما شاركوا في إدارة شؤون القبائل والمناطق، وفي بعض الأحيان قادوا الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي.
ومن الأمثلة التي تشهد على تداخل الزهد بالسياسة أيضًا الشيخ شامل القوقازي، الذي كان زاهدًا وصوفيًا، لكنه قاد مقاومة مسلحة طويلة ضد الروس، رافعًا شعار جهاد الشرعية الإسلامية، والحفاظ على استقلال القوقاز، مما جعله من أشهر القادة الصوفيين الزهاد الذين جمعوا بين الروحانية، والقيادة السياسية، والعسكرية.
تظهر هذه الأمثلة أن الزهد في التصوف ليس بالضرورة مانعًا من الانخراط في السياسة أو السلطة، بل يمكن أن يتسق معهما، إذا كانت النوايا والغايات مرتبطة بخدمة الدين، والمجتمع، والعدل. ومع ذلك، فإن هذا التلازم بين الزهد والسلطة يطرح تحديات أخلاقية وفكرية حول كيفية الحفاظ على نقاء الروحانيات، والزهد في وسط متطلبات السياسة وصراعات السلطة.
الحفاظ على نقاء الروحانيات، والزهد في وسط متطلبات السياسة وصراعات السلطة، هو تحدٍ مركزي في الفكر الصوفي، والواقع المعاصر للطرق الصوفية. التصوف في جوهره هو سعي نحو الصفاء الذهني والروحي، وتركيز على مجاهدة النفس، والتقرب إلى الله، بعيدًا عن المظاهر الدنيوية، وما تحمله من صراعات السلطة والسياسة التي قد تلوث الطهارة الروحية.
يفرق الصوفيون بين عالم الروحانيات، حيث يتعاملون مع الذات، وسلوك القرب الإلهي، وعالم السياسة، الذي يتصف بالصراعات والمصالح، وله منطق مغاير للطهر الروحي. مع ذلك، كثيرٌ من أفراد الطرق الصوفية ينشطون في الحقل السياسي، الأمر الذي يولّد ازدواجية في الحياة بين الالتزام الروحي في إطار الزاوية من جهة، ومتطلبات السياسة من جهة أخرى.
لذلك، فإن الحفاظ على نقاء الروحانيات يتطلب التمييز الدقيق بين ممارسة السياسة كجزء من حياة الإنسان، ومسؤولياته الاجتماعية، وبين جعل السياسة تغطي على الجوهر الروحي وتهدد الزهد، والتأمل. وهذا التمييز يعني دعم ما يُسمى بـ”السياسة النظيفة” التي لا تفسد الروح والقيم الصوفية، وتفادي التورط في نزاعات أو تسويات سياسية قد تدمر ما بناه التصوف من صفاء داخلي.
الزهد السياسي في التصوف يشدد على الانكفاء المؤقت عن التداولات السياسية، وليس الانفصال أو اللامبالاة بالأمر. كما أن الصوفية كمؤسسة وجدت في بعض الثقافات إطارًا يوازن بين دورها الروحي، وتأثيرها الاجتماعي والسياسي المعتدل، فتقدم نموذجًا يتجنب التطرف السياسي، دون التخلي عن تأثيرها في المجتمع لدعم القيم والمبادئ العليا.
في بعض السياقات، يلجأ شيوخ الزوايا الصوفية إلى أساليب مثل الحضور الرمزي، والحوار البناء مع السلطات، واستعمال التأثير الروحي والثقافي بدل المواجهة المباشرة، ليحافظوا على مكانتهم الروحية، ويجنبوا الطرق السلبية التي تفرق المجتمع وتجرّح الروحانية. وهكذا يُعزّز التصوف دوره كحامٍ للأسس الأخلاقية، ويخدم المجتمع بدون أن يدخل في دوامات السياسة الفاصلة.
ومع ذلك، فإن خطر الارتباط المباشر بالسلطة يبقى قائمًا، حيث يمكن أن تتحول الروحانية إلى سلطة رمزية تُستخدم للدعم السياسي، مما يهدد نقاء الزهد، ويحول الطرق الصوفية إلى حلقات تابعة، تنساق وراء مصالح دنيوية. ولذلك، فإن الحفاظ على توازن حرّ، ووعي نقدي داخلي في العلاج الذاتي والمجتمعي، يظل ضروريًا.
بالتالي، يمكن تلخيص الأمر بأن الحفاظ على نقاء الروحانيات والزهد في وسط السياسة يستدعي قدرة على التمييز، وعناية للحفاظ على الجوهر الداخلي للصوفية، وتحقيق التوازن بين الانخراط الاجتماعي والسياسي من جهة، والاستقامة الروحية من جهة أخرى، مع مقاومة كل ما يضير النظام الروحي، والقيم الأصيلة التي يرتكز عليها التصوف.
وفي الختام، يظهر من هذا كله أن التصوف والطرق الصوفية تتسم بطابع معقد، يوازن بين الزهد الروحي، ومواجهة الهموم الاجتماعية والسياسية بشكل واع، ومدروس، ولا تنفصل تمامًا عن واقع السياسة والمجتمع، بل تؤثر فيهما، وتتأثر بهما، مع الحرص على حماية نقاء الروح، وأصالة الزهد، حتى يبقى التصوف ملهما، ومرشدًا، وروحًا حية في حياة الأمة عبر العصور.
المصادر والمراجع المعتمدة في انجاز هذا التقرير 👇🏼
المشيخة الصوفية بين الاصطفاء الرباني والتوظيف السلطوي بقلم. الغزالي. سامر
“مصادر التصوف المغربي
(1)” – الرابطة المحمدية للعلماء، يحتوي على دراسة شاملة لأهمية التصوف المغربي وأثره في الفضاء الديني والسياسي
“التصوف في المغرب: المفهوم والأصول والتاريخ” – مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، يقدم نظرة متعمقة حول الأصول الشرعية والتاريخية للتصوف المغربي
“الزاوية بين الديني والاجتماعي والسياسي” – مجلة ليكسوس، بحث أكاديمي يتناول الأدوار المتعددة للزوايا الصوفية في المجتمع المغربي
“الزاوية المغربية في العصر السعدي” – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، مرجع مهم عن تاريخ الزوايا وأثرها في فترات محددة
“الطرق الصوفية” – مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، يشرح تاريخ وأدوار الطرق الصوفية في المغرب وإفريقيا
“الزوايا ودورها في استمرارية التدين الشعبي بالمغرب الحديث” – صحيفة الشرق الأوسط، مقالة توضح العلاقة بين الزوايا والسلطة في التاريخ الحديث