الصين ورحلة الروبوت الحامل والرحم الصناعي: ثورة تكنولوجية تثير تحديات أخلاقية وقيمية في ظل الإسلام المعاصر
التكنولوجيا بين فرص علاج العقم وحفظ الهوية الأسرية والشرعية في عصر الابتكارات الطبية الحديثة

في خضم التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم، برزت تقنيات جديدة غيرت الكثير من مفاهيم الحياة ومن بينها مجال الإنجاب حيث أعلنت شركة صينية حديثاً عن ابتكار روبوت بشري مزود برحم صناعي يمكنه حمل الجنين لمدة عشرة أشهر والولادة فيما يشبه الحمل الطبيعي، والروبوت يعتمد على رحم اصطناعي يحتوي على سائل أمنيوسي مزود بالتغذية اللازمة للنمو الجنيني عبر أنابيب متصلة بالحبل السري، وقد لقي هذا الابتكار اهتماماً واسعاً لما يحمله من آفاق علمية مثيرة مع تحديات أخلاقية وقانونية وفلسفية عميقة.
يهدف هذا الروبوت إلى تقديم فرصة جديدة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الإنجاب أو يريدون تجنب أعباء الحمل التقليدي، إلا أن المشروع لم يخلو من جدل واسع تركز حول فقدان الجنين للتواصل العاطفي والجسدي الطبيعي مع الأم واحتجاجات على تأثيره المحتمل على مفهوم الأمومة الأصيلة والروابط الأسرية، فضلاً عن تساؤلات حول قدرة الروبوت على محاكاة العمليات الحيوية الدقيقة المرتبطة بالحمل مثل إفراز الهرمونات والتفاعل المناعي ونمو الجهاز العصبي، ما يضع هذه التقنية على مفترق طرق بين الإنجاز العلمي والاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.
ومع هذه التطورات، تظهر على السطح تحديات قانونية معقدة تتصل بتحديد الشخصية القانونية للجنين الأسبوع الذي يتحول فيه إلى كائن له حقوق قانونية، ومسؤوليات الأب والأم في ظل استخدام تقنية الرحم الصناعي، والتبعات المحتملة لتجارة الحمل أو استغلال الأرحام الصناعية، بالإضافة إلى موافقة الأطراف المعنية والخصوصية الطبية وتأمين البيانات، فضلاً عن انعكاسات اجتماعية وثقافية تطال المدخلات التقليدية للأسرة والأدوار الجندرية، مما يستوجب صياغة أطر قانونية واضحة ومنظمة تراعي هذه المستجدات.
أما من الناحية الشرعية، فتبرز ضوابط واضحة لاستخدام هذه التكنولوجيا تقتضي وجود حاجة طبية حقيقية، مع الحفاظ على النسب الشرعي من خلال استخدام بويضة ونطفة الزوجين فقط وحظر تدخل الجهات الخارجية، وبمنع استئجار أرواح بشرية للإنجاب أو إجراء تعديل وراثي للجنين، كما تؤكد ضرورة موافقة الزوجين بوعي تام، والعمل ضمن القيم الدينية والأخلاقية التي تحمي الإنسان ودماثة خلقه، مع دعم هذه الضوابط برقابة قانونية صارمة لضمان عدم استغلال التقنية.
في السياق ذاته، تتداخل الأبعاد الثقافية والاجتماعية عندما ننظر إلى تأثير التكنولوجيا على الأمومة والطفولة؛ فرغم الدعم الذي توفره منصات التقنية للأمهات من خلال إبراز المعلومات وتسهيل التواصل الاجتماعي، فإن الانشغال الرقمي قد يضعف التواصل العاطفي بين الأم وطفلها مما يهدد استقرار الروابط الأسرية ويؤثر على نمو الطفل العاطفي والاجتماعي.
ورغم أن التكنولوجيا تفتح فرصاً للتعليم وإثراء التجربة الوالدية، إلا أنها تتطلب توازناً دقيقاً وحرصاً على ألا تحل مكان اللحظات الحسية الحية التي تتشكل فيها روابط الأمان.
هذه النظرة المعمقة للموضوع تتوسع لتكشف عن الصراع بين الاستفادة العلمية من التكنولوجيا الحديثة وبين المحافظة على القيم الإسلامية في مجال الإنجاب والحياة الأسرية حيث يؤكد الإسلام على ضرورة احترام الروابط الزوجية والنسبية، مع رفض استخدام تقنيات تخل بهذه المبادئ أو تؤدي إلى ممارسات تعتبر تعدياً على خلق الله وتغيراً في طبيعة النسيلة. ويدعو الفقه الإسلامي إلى ضوابط صارمة تضمن استخدام التكنولوجيا ضمن الشرع، وتحول دون استغلال الإنسان، والحفاظ على الهوية الأخلاقية والاجتماعية.
وفي إطار أوسع، تؤثر التكنولوجيا الحديثة على القيم الإسلامية المعاصرة؛ فبينما تتمكن من توسيع دائرة التعليم الديني وتقوية المجتمعات الإسلامية من خلال التواصل الرقمي وتوفير المعرفة، فإنها تثير في الوقت نفسه مخاطر تتعلق بتجاوز القيم أو ضياعها بسبب المحتوى المضلل أو الاستخدام المفرط الذي يعزل الإنسان اجتماعياً ونفسياً. هذا يتطلب وعياً مجتمعيًّا وإدارة حكيمة للاستفادة من مزايا التكنولوجيا، دون السماح لها بالتدخل في القيم الجوهرية التي تحدد الهوية الإسلامية.
من هنا، يبرز التحدي الأكبر في إيجاد توازن بين التقدم العلمي والحفاظ على القيم الإنسانية والدينية في عصر تتحول فيه التكنولوجيا إلى عنصر أساسي للتحكم في تفاصيل حياتنا، وخاصة في قضايا حساسة مثل الإنجاب والأمومة.
فهذه التقنيات تحمل في طياتها إمكانيات هائلة لتحسين ظروف الإنسان، لكنها في ذات الوقت تضع أمامنا مسؤولية أخلاقية وقانونية للرقابة والتوجيه حتى لا تتحول إلى أدوات تهدد ثوابتنا الروحية والاجتماعية.
إن تحقيق هذا التوازن يتطلب تكاتف الجهود بين العلماء والفقهاء والمختصين في الطب والقانون، لفهم عميق وشامل يضمن أن تسير التطورات العلمية مواكبة للقيم الإسلامية التي تحمي كرامة الإنسان وتحفظ نسله وتحافظ على البنية الأسرية، بما يخدم مصلحة الفرد والمجتمع دون تجاوز أو اختلال.
وفي ضوء هذه المتغيرات الديناميكية، يبقى الحوار المفتوح والمستنير هو السبيل الأمثل لوضع الضوابط اللازمة لصياغة مستقبل يدمج بين التطور التكنولوجي والهوية الأخلاقية الإسلامية.
بهذا التصور المتكامل، فإن التجديد في التكنولوجيا لا يجب أن يكون على حساب القيم الأساسية التي تشكل نواة الحياة، بل يجب أن يكون دافعاً لتعزيزها بمقاصدها السامية، عملاً وتعاملاً، لنشكل بذلك جسراً لا ينقطع بين الإنسان ودينه وتاريخه، مهما تعقدت الأدوات وأكثرت الابتكارات.