أخبار

العدالة التصالحية والوساطة الحلقة الاولى: العدالة في الفكر الفلسفي 

إعداد :عبد الواحد بلقصري

باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة

هاته المقالة سوف نحاول من خلالها ابراز اهمية العدالة التصالحية والوساطة من خلال مقارباتنا التي تتضمن المحاور التالية :  

المحور الاول : العدالة في الفكر الفلسفي

المحور الثاني : العدالة الانتقالية ولجانها و مجالاتها

المحور الثالث : العدالة الجنائية بين المواثيق الدولية والتشريع الجنائي المغربي

المحور الرابع : العدالة التصالحية /المفهوم والنشأة والأهداف والمبادئ

المحورالخامس : الوساطة /المفهوم والأهداف والمميزات

المحور السادس : لمحة عامة عن عمليات العدلة التصالحية والوساطة /الإطار الدولي ودراسة بعض الحالات وسوف سيتم نشر هاته المحاور عبر حلقات كل حلقة مخصصة لمحور ،وتتضمن الحلقة الاولى العدالة في الفكر الفلسفي .

 

العدالة في الفكر الفلسفي :

تقديم:

أول ما ينفتح أمامنا عند مقاربتنا موضوع العدالة هو الطريق السهل المؤدي إلى تفسير العدالة بضّدها.وهذه طريقة في التعريف تُدعى مدرسًيا بالتعريف السلبي، أو السالب (وهو الأدق). وهو التفسير المألوف منذ شريعة حمورابي، كون العدالة هي منع الشر الكامن في الظّلم، وذلك بواسطة قواعد مفروضة، سواءأكانت تعاقدّية أم عقابّية، ومن هنا اعتبار العدل كامًنا في تطبيق هذه القواعد، سواء أكانت أعرافًا أم قوانين .

مفهوم العدالة في الفلسفة اليونانية :  

– مفهوم العدالة عند أفلاطون :

أفلاطون هو اول الشخصيات التي أوضحت إن ليس للاجتماع المدني قاعدة سوى العدل ، وأنأي دولة لا تقوم على العدل هي دولة فاسدة مؤذنة بالانهيار ، وقد حدد افلاطون فكرة العدالة فيالكتاب الرابع من الجمهورية ، بالقول انها تعني لديه ان يؤدي كل انسان عمله الخاص به دون أن يتدخل في عمل سواه : فالمدينة عادلة اذا قام الصانع والجندي والحاكم فيها كل بعمله دون أن يتدخل في أعمال الطبقتين الأخريين .

إن أول أسس نظام الحكم في دولة المدينة الفاضلة وشروطه مراعاته اختلاف البشر وعدم تساويهم ، وأن مهمات الحكم ومسؤولياته فيه ، يجب أن توكل إلى أهل المعرفة لأنهم وحدهم القادرون بحكم هذه المعرفة على معرفة الفضيلة وشروطها وحكم المدينة – الدولة وإدارة حياتها بالفضيلة ومن أجلها ، ولما كان العارفون بالفضيلة وطرق تحقيقها هم القلة الحكيمة ، العاقلة العارفة ، من الفلاسفة الحكماء ، فهذه القلة هي التي يجب أن تحكم لأن الاجتماع المدني يجب أن يحقق الفضيلة ، ولن تتحقق الفضيلة إلا بالعدالة وليس بالمساواة ، فإن حدث العكس فسيكون هذا الاجتماع عرضة للفساد والانهيار  وحـــــــيث إن هؤلاء المواطنين ليسوا متساويين أبدا من الناحية الفعلية والواقعية لا عقليا ولا جسديا، فسيكون النظام الديمقراطي نظاما خاطئا لأنه يقوم على قاعدة خاطئة ، وانتهى ذلك بأفلاطون إلى تبني تمييز أستاذه سقراط بين المساواة والعدالة على أساس أن العدالة تعني إعطاءكل ذي حق حقه وفقا لقدراته أو جهوده أو كليهما معا ، والمساواة تعطي للجميع حقوقا متساوية حتى وإن اختلفت قدراتهم وتباينت مؤهلاتهم وجهودهم ، وبذلك فإن المساواة التي يزعم النظام الديمقراطي قيامه عليها لتحقيق العدالة ، حقيقة الأمر إخلال بالعدالة ونقض لها . وقد بنى افلاطون رأيه على ذلك وتحقيقا لمفهوم العدالة الافلاطوني فان الحكم لا يمكن ان يكون وراثيا، فالفيلسوف الحاكم يمكن ان يولد في أية طبقة من طبقات المجتمع ، فإن المؤهل للحكم يمكن أن يولد من الفلاسفة مثلما يولد من المنتجين ، ويمكن أن يولد المؤهل للإنتاج من المنتجين مثلما يولدمن الفلاسفة، وهكذا يحتاط أفلاطون لعدالة مدينته ويضمن تحقيقها فيها بأن يجعل الاختبارللمناصب العليا ممكنا من طبقات المجتمع كلها ، وإن كان قد رأى أن امتزاج الأصل الطيب والتعليم الجيد يمكن أن يؤدي إلى أفضل النتائج ، ويقول أفلاطون عن ضرورة حكم الفلاسفة للمجتمع السياسي / الدولة : إلى أن يغدو الفلاسفة ملوكاً، أو يستوعب ملوك العالم وأمراءه الفلسفة وسطوتها ، بمعنى تلاقي السؤدد السياسي والحكمة في فرد ، وبعكسه فلن تتخلص الدول مما ترزح تحته من رزايا الحكم وآثامه ، ويستنتج من ذلك أن مجموع الفضائل الفردية والاجتماعية وكمالها ، ينتج عن فضيلة العدالة التي لا يحملها في رأيه إلا أصحاب المعرفة الفلاسفة ، لأن المعرفة الفضيلة والفضيلة هي المعرفة ، ويجب أن توضع مقاليد السلطة ومفاتيح/الحكم بيد أصحاب فضيلة العدالة هؤلاء لأنهم وحدهم من تؤهلهم طبيعتهم ومؤهلاتهم وتجربتهم لإدراك الخير الحق ليس في السياسة فحسب بل وفي أوجه الحياة وجوانبها كلها ان تعريف افلاطون للعدالة بهذا الشكل يدفعنا إلى تسجيل الملاحظات الاتية :

1- أن افلاطون في تحليله لمبدأ العدالة قد جعل مسألة التحليل مزدوجة : فالعدالة اولا صفةللفرد وهي بهذا المعنى حقيقة مستقلة ، ثم هي ثانيا صفة للدولة وهذا المعنى تعبر عن خصائص أخرى مختلفة، بعبارة أخرى العدالة على مستوى الميكرو Microنصير لصيقةبالفرد ، اما على مستوى الماكرو Macroفانها ترتفع من حيث مدلولها المرتبط بالوحدةالسياسية الكلية بالنسبة للمواطن هي أن يعطي كل ذي حق حقه ، أما بالنسبة للدولة فهي أن تمكن كل مواطن من أن ينمي مواهبه الذاتية

2ـ أن تعريف أفلاطون للعدالة لم يكن تعريفاً قانونياً بأي معنى ، فقد جاء خالية مما يتضمنه اللفظ اللاتيني Jusأو اللفظ الانكليزي Rightمن معنى على مباشرة تصرفات ارادية في ظل حماية القانون ويتأييد سلطة الدولة، وبانتفاء هذه الفكرة لاتعني العدالة لدى أفلاطون ، إلا من بعيد ، المحافظة على السلام العام والنظام ، وليس للنظام العام الخارجي ، على الأقل ، إلا نصيب ضئيل في التجانس الذي يكون الدولة ، فما توفره الدولة لرعاياها ليس الحرية والحماية كمقومات الحياة ، بل تهيئة فرص التبادل الاجتماعي،التي تحقق ضرورات ومقتضيات الحياة المتحضرة ، إن في مثل هذه الحياة الاجتماعية حقوقا كما فيها واجبات ، ولكن لا يمكن القول بأن هذه الحقوق والواجبات تخص الأفراد لأنها أكثر اتصالا بالخدمات التي يؤدونها ، فالتحليل، إذن ، يجري على أساس أن الدولة قد نشأت وليدة الحاجات المتبادلة ، ويستعمل بالتالي عبارة (خدمات) لاعبارة (سلطات) والحاكم نفسه إلا استثناء من القاعدة لأنه قد اختص بالوظيفة التي أهلته لها حكمته .

ففكرة السلطة صاحبة السيادة لم يكن لها مكان في نظرية افلاطون السياسية ولا في فكر أي فيلسوف اغريقي آخر ” ولهذا يقال بأن العدالة في نظر أفلاطون ليست مسألة قانونية أولاتتناول أي مخطط خارجي للحقوق والواجبات القانونية أي أنها لاتدخل في نطاقه القانوني بل تنتمي إلى مجال الاخلاق الاجتماعية التي لا تعني الأخلاق الشخصية الكائنة في أعماق ضمائرنا ولا القانونية التي يضيفها القانون على الأعمال بل هي شيء يمزج بين الاثنين و يسمو عنها”.

 3- إن العدالة عند افلاطون لم تكن تقتضي المساواة ، لأنه من الممكن ، في اعتقاده ، أن يقع تفاوت في السلطة والحقوق دون أن يكون في ذلك ما ينافي العدالة . فالسلطة من حق الحكام لأنهم أحكم أعضاء المجتمع ، وأن الظلم لا يقع في هذا الصدد إلا إذا وجد بين أفراد الطبقتين الأخريين من هم اكثر حكمة من بعض الحكام ، ولهذا نرى افلاطون يحتاط لذلك فيجيز رفع المواطنين أو خفضهم ، رغم اعتقاده أن ميزتي المولد الطيب والتعليم الجيد ستؤديان إلى نتيجة في معظم الحالات يأتي أبناء الحكام أفضل من أبناء الاخرين .

مفهوم العدالة عند أرسطو :  

من الفلاسفة الذين كان لهم تأثير كبير في تاريخ الفلسفة الفيلسوف اليوناني أرسطو ، وهو كما قال الدكتور عبد الرحمن بدوي “أعظم فيلسوف جامع لكل فروع المعرفة الإنسانية في تاريخ البشرية كلها ” ، وهو وإن كان له باع كبير في الفلسفة بأشكالها المتنوعة ، إلا أن الفلسفة السياسية شكلت جزءًا كبيراً من فلسفته ، نظراً لأنه كان يضع السياسة في المرتبة الأولى في تصنيف العلوم . 

يقول أرسطو : ” وأسمى العلوم والفنون هي السياسة ” ،وتبعاً لهذا نجد أرسطو قد ألف كتابين خصصهما للحديث عن الفلسفة السياسية المتعلقة بالدولة الفضلى وكيف ينبغي أن تكون، هما: كتاب السياسيات وكتاب الأخلاق النيقوماخية ، أماكتابه السياسيات فيعتبر هو المؤلف الرئيسي لفلسفته السياسية .

ومن الأمور والمسائل التي أولاها أرسطو اهتماماً كبيراً في هذين الكتابين بالذات مسألة العدل، لأنه قد اعتبر العدل هو أساس الفضائل كلها .

يقول أرسطو في كتابه السياسيات : تعتبر فضيلة العدل فضيلة اجتماعية تتبعها ضرورةً كل الفضائل الأخرى وبدون هذه الفضيلة – من وجهة نظره – لا يمكن قيام الدولة المثلى. يقول: »

بيد أن الدولة تحتاج أيضاً إلى فضيلة العدل والبسالة الحربية لأنه لا سبيل إلى تأسيس دولة بدون هاتين الفضيلتين «وبالإضافة إلى قيام أرسطو بتخصيص جزءٍ كبير من كتابه السياسيات للحديث عن العدالة بأنواعها ، نجده قد استفاض بالحديث عن هذه المسألة في كتابه الأخلاق النيقوماخية، حيث تمد المصدر الأساسي لنظرية أرسطو في العدالة من الفصل الخامس من كتابه الأخلاق النيفوماخية .

بمشيئة االله تعالى -ولذا سأقوم – بالاعتماد على هذين الكتابين في نقل كلام أرسطو عن العدالة الاجتماعية أو كما سماها التوزيعية . 

2-1مفهوم العدالة وانواعها عند ارسطو :

قام أرسطو بتعريف العدالة . حيث عرف العدالة بما يضادها قال فـ (الأخلاق النيقوماخية) فلنفحص عن كثب ما هو العدل؟ وما هي مشخصاته،) ١فيبدأ بتعريف الظالم أولاً بأنه : » هو غير القانوني والمضاد لقواعد. العدالة أي الجائر ، وعلى هذا يكون العادل هو القانوني والمنصف إذاً العدل من وجهة نظره هو الالتزام بالقانون وعدم الخروج عنه . وهذا هو المفهوم العام للعدلة لدى أرسطو ، وبناء على هذا المفهوم العام يقسم أرسطو العدل إلى نوعين ، حيث يقول : ويجب تمييز نوعين من العدل: عدل توزيعي سياسي واجتماعي، وعدل قانوني تعويضي «فبالنسبة للنوع الأول منها وهو ما سماه أرسطو بالعدل التوزيعي المرادف –للعدالة الاجتماعية فيعرفه بقوله : » والعدل يبدو للجميع مساواة ما « (. ) ٤

وأما النوع الثاني والذي سماه بالعدل القانوني والتعويضي فهو كما عرفه أرسطو : إعطاء ذي الحق المغتصب حقه في المعاملات الثنائية ، كالتجارة أو المقايضة أوالاختلاس .

يقول أرسطو : » وعلى ذلك يكون العادل هو بمعنى ما نسبة ، وهذه النسبة تقتضي مساواة العلاقة القائمة بين أربعة أطراف على الأقل ، وتظل النسبة ثابتة ، سواء كانت بين الشخصين أو بين الشيئين ، والتوزيع الذي يراعي هذه النسبة هو العادل ، أما ما لا يراعي هذه النسبة فهو ظالم ، ويسمي الرياضيون هذه النسبة بأا هندسية ، وهي أحد أنواع العدالة وهي العدالة التوزيعية «تقتضي مساواة العلاقة القائمة بين أربعة أطراف على الأقل ، وتظل النسبة ثابتة ، سواء كانت بين الشخصين أو بين الشيئين ، والتوزيع الذي يراعي هذه النسبة هو العادل ، أما ما لا يراعي هذه النسبة فهو ظالم ، ويسمي الرياضيون هذه النسبة بأا هندسية ، وهي أحد أنواع العدالة وهي العدالة التوزيعية «ومن ثم يربط العدل التوزيعي بالاسـتحقاق والجدارة ، حيث يقول : ووجود »تلك المساواة يتحتم على الأحرار والأكفاء «فليست المساواة التي تحدث عنها أرسطو مساواة اعتباطية أو شيوعية فوضاوية عشوائية كالتي تحدث عنها أستاذه أفلاطون .

ومن هنا رأينا أرسطو يصوب سهام النقد لأفلاطون في قوله بشيوعية النساء والأطفال والمقتنيات ، حيث يبين بعض الأضرار والأخطار المترتبة على ذلك بقوله : » وعندما يضحى لكل من أهل الدولة ألف ولد ، لا كأم له بمفرده ، ولكن لكون أي غلام يعتبر ولد أي رجل ، يهمل الجميع على السواء هؤلاء الغلمان « 

 

2-2مجالات أو كما سماها أرسطو مشخصات :

ولنبدأ أولاً بما سماه أرسطو المساواة في مظاهر الشرف (السلطة أو الحكم).

فعلى الرغم من أن أرسطو قد قسم المجتمع إلى فئات مختلفة إلا أنه لم يقصر أمر الحكم والسلطة على أفراد أو جماعة بعينها كما فعل أفلاطون حينما جعل زمام السلطة والحكم بيد الفلاسفة ، بل استبعد امتياز الفلاسفة ، ورأى أن الدولة المثلى .

لابد أن تجمع بين الطرفين المتناقضين من أطراف المجتمع، إن الدولة التي يكون دستورها وسطاً بين حكم الأغنياء والفقراء، أو بين الأرستقراطية والديمقراطية.

ولذا رأى أرسطو أنه لا احتكار في أمر السلطة والحكم على جماعة معينة أو فرد بذاته ، بل من العدل التناوب فيهما .

يقول أرسطو : “العدل يقوم على التوازن التام بين التسلط والخضوع ، وبالتالي يقوم العدل أيضاً على التناوب فيهما ” ، ولكن هذا التناوب محكوم ومقيد بالكفاءة والأهلية عند التساوي ، حيث كما يقول : ” ليس من العدل أن يتسلط الفرد وحده إذا ما تكافأ الجميع بلا استثناء وتماثلوا” .

2-3الملكية وتوزيع الثروات من وجهة نظر أرسطو :

كما سبق وأن ذكرت فقد انتقد أرسطو رأي أستاذه أفلاطون في شيوعية الممتلكات والمقتنيات حيث قال : يجب أن لا تكون المقتنيات شائعة كما ادعى بعضهم.

من هنا فقد اعترف أرسطو بحق الفرد في الملكية الخاصة ، واذ يعتبر أرسطو أول من أرسى دعائم الرأسمالية بإقراره حق الملكية.

وعلى الرغم من أن أرسطو لا ينكر ما للملكية الخاصة من مساوئ إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن الملكية المشتركة والمعيشة المشتركة يمكن أن تكونا مثار خلافات كثيرة ، لأنهما تقضيان على الحافز الذاتي لدى الإنسان وتضعفان الرغبة في العمل والانتاج .

وبعد أن أقر حق الفرد في الملكية الخاصة ، وضع شكلاً لتوزيع الثروات في الدولة توزيعا يضمن تحقيق العدالة من كل الأفراد في الدولة . ولنأخذ على ذلك مثـالاً في تصوره لتقسيم أراضي الدولة حيث قال : فيتحتم إذن أن تشطر أراضي الدولة إلى شطرين ، شطر يكون مشتركاً وشطر يكون للأفراد ، وأن يقسم كلا الشطرين إلىجزئين آخرين : الجزء الأول من شطر الدولة يوقف لخدمة الآلهة ، والجزء الثاني للإنفاق على الموائد العامة .

العدالة في الفلسفة الإسلامية :

المتأمل في فكر كثير من فلاسفة المسلمين القدامى يجد أن التفكير السياسي قد أخذ حيزاً كبيراً من فلسفات الكثير منهم ،ولا عجب في ذلك، فالسياسة كانت

ومازالت جزءًا من التفكير الديني الإسلامي منذ هجرة الرسول صلى الله علية وسلم وحتى الآن ، لكن كان لأبي نصر الفارابي بالذات باع كبير في الفلسفة السياسية ، حيث كانت النزعة السياسية هي المسيطرة على فكر الفارابي وتوجهه حيث أصبحت القضايا الفلسفية الأخرى كلها خاضعة لها ، ومؤلفات الفارابي الرئيسية التي نجد فيها عرضاً شاملاً لمذهبه هي مؤلفات سياسية مثل كتاب: آراء أهل المدينة الفاضلة ، وكتاب السياسات المدنية وتحصيل السعادة وغيرها.

واعتبر أكبر الفلاسفة بعد أرسطو وأعظم ناشر وموضح لآرائه، حتى لقد أطلق عليه اسم المعلم الثاني أي خليفة أرسطو ، والذي اشتهر بلقب المعلم الأول ، وهو أعرف فلاسفة الإسلام بتاريخ الفلسفة ونظريات لهذا وقع الاختيار على أبي نصر الفارابي للحديث عن مسألة العدالة الاجتماعية عنده كأبرز فلاسفة المسلمين.

وكما ذكرت فإن » للفارابي عدة كتب في الأخلاق والسياسة ، ولعل كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة الذي ألفه في شيخوخته بعد بلوغه السبعين سنة أدل هذه الكتب على آرائه الفلسفية والسياسية.

2-1مفهوم العدل لدى الفارابي :

جاء تحديد الفارابي لمفهوم العدل بشكل عام تحديداً غريباً ، حيث قال في الباب الخامس والثلاثين من كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة تحت عنوان : القول في العدل: “فما في الطبع هو العدل ، فالعدل إذاً التغالب ، والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها، والمقهور إما أن يقهر على سلامة بدنه ، أو هلك أو تلف ، وانفرد القاهر بالوجود ، أو قهر على كرامته وبقي ذليلاً ومستعبداً ، تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو الأنفع للقاهر في أن ينال به الخير الذي عليه غالب ويستديم به ، فاستعباد القاهر للمقهور  هو أيضاً من العدل ، وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر ، هو أيضاً عدل ، فهذه كلها هو العدل الطبيعي وهي الفضيلة “.

وهذا المفهـوم عن العدل هو المفهـوم المستخدم في شـريعة الغاب البقاء للأقوى ، وهو التنازع في سبيل حصول القوي أو القاهر على أكبر قدر من خيراتالضعيف أو المقهور ، وفي حالة وصول القوي أو القاهر إلى مبتغاه يكون قد تحقق بالسعادة .

يقول الفارابي: وأن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد.

يقول الدكتور / جميل صليبا : ونحن نرى أن وصف الفارابي للمدن الجاهلةوالفاسقة والضالة لا يقل خطورة عن وصفه للمدينة الفاضلة ، لأنه يتكلم عن القهر والقوة وتنازع البقاء والتغالـب وغير ذلك من الآراء التي لا نجدها.

وعلى الرغم أن هذا هو مضمون كلام الفارابي عن العدل في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة أنه قد يقصد به أن هذا الشكل من العدل هو ما تنطوي عليه طباع أغلب الناس ، فطباع أغلب الناس فطرت على حب السيطرة والتسلط واستعباد الغير ، وليس مقصد الفارابي من كلامه السابق أن هذا هو مفهوم العدل عنده ، أو أن هذا التصور هو المعتمد لديه عن العدل ، وقد يستدل على هذا الاستنتاج ببداية كلامه عن العدل، حيث قال كما سبق ذكره : فما في الطبع هو العدل وقد أطلـق على هـذا الشكل من العدل اسـم العدل الطبيعي ، حيث قال :

” فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضاً من العدل ، وأن الفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضاً عدلٌ ، فهذه كلها هو العدل الطبيعي” .

 

2- 2أوجه الاتفاق بين أفلاطون وأرسطو والفارابي ما يلي :

اتفق كل من أفلاطون وأرسطو والفارابي في الغاية من وضع مبادئ العدالة الاجتماعية ، وهي وصول جميع أفراد الدولة إلى السعادة ، ولهذا شرع كل من أفلاطون والفارابي في وضع تصور لمدينة تتحقق فيها هذه السعادة اعتماداً على مبدأ السعادة . 

اتفق كل من أفلاطون والفارابي على أن الجمهورية أو المدينة كالبدن التام الصحيح، إلا أن الفارابي خالف أفلاطون في أنه جعل أعضاء المدينة وحدة مترابطة يخدم الأدنى الأعلى ويخدم الأعلى الأدنى حتى الطبقة قبل الأخيرة ، أما أرسطو لم يقل بذلك  اتفق الفلاسفة الثلاثة على التقسيم الطبقي في المجتمع بدرجات مختلفة إلا أن أفلاطون والفارابي جعلا في قمة هذا التقسيم الحكام من الفلاسفة ، وفي أدناه طبقة العمال والفلاحين. أما أرسطو فقد اقترح إسناد الحكم إلى الطبقة المتوسطة .

اتفق الفلاسفة الثلاثة على قسمة سائر الخيرات والثروات على جميع طبقات المجتمع على حسب الاستحقاق والجدارة .

أجمع الفلاسفة الثلاثة على أنه من واجب الحكام حماية العدل التوزيعي بفرض العقوبات الرادعة في حال محاولة الإخلال به . 

2-3ومن أوجه الاختلاف :

بالنسبة لتوزيع وقسمة الخيرات ، انفرد أفلاطون بالقول بشيوعية الممتلكات ،والمقتنيات والنساء والأولاد لاسيما طبقتي الحكام والحراس، وأنكر أرسطو على أستاذه هذا القول ، كما لم يقل به الفارابي .

– بالنسبة للحكام – . انفرد أرسطو بالقول بأنه يجب أن يكونوا من الطبقة الوسطى ، وانفرد الفارابي برفعة الحاكم الفيلسوف إلى مرتبة النبوة ، كما انفرد أفلاطون باشتراطه أن يدرب الحاكم الفيلسوف تدريبا عملياً على الحكم لمدة خمسة عشرة سنة .

انفرد الفارابي عن أفلاطون وأرسطو بفكرة نظام أشبه بنظام الضمان الاجتماعي الذي يكفل غير القادرين على الكسب والعمل كالمرضى .

انفرد الفارابي عن أفلاطون وأرسطو بقوله بإبعاد كل من يميز في الدولة بمكرمة أو شيء لا يستحقه منعاً لإفساد منظومة العدالة التوزيعية في المدينة الفاضلة .

2- 4 العدالة في القران الكريم :

حتى فعل عدل في “عدل عن” بمعنى تخلّى عن فعل، أو تراجع عن القيام بأمر أراد القيام به، إنما يفيد معنى التفكير بالأمر ووزنه قبل القيام به إلى درجة رجحان العدول عنه. ويقول ابن منظور في لسان العرب: “إن العدل هو ما قام في النفوس أنه مستقيم”. وعكس العدل في العربية هو الجْور أو الظلم، وليس الـ”لا-عدل” كما في الإنكليزية؛ ففي تلك اللغة نجد في مقابل كلمة justiceكلمة .injusticeوقد صّنف لسان العرب الاستخدامات القرآنية للعدل كما يلي: العدل في الحكم، قال الله –تعالى-“: واذاحكمتم بين الناس” أن تحكموا بالعدل”والمقصود هنا طبعا الحكم بين الناس لا حكم الناس، أو السلطة عليهم.

الحكم هنا هو القضاء في مفهومنا المعاصر. كما نجد في القرآن العدل في القول “وإذا قلتم فاعدلوا” والعدل بمعنى الفدية: ﴿َولا ُيْقَبُل ِمْن َها َعْدل﴾ ،والعدل في الإشراك: ﴿تم الذي يشركون، وأّما قوله – تعالى “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم”وذلك فيالتحفظ القرآني على تعدد الزوجات المتاح شرعًيا مع واجب العدل بينهن، مع استحالة العدل بين النساء، ولا سيما في توزيع الزوج لواجباته الزوجية بين النساء. 

أخيراً :

يمكن القول من خلال النتائج السابقة أن الفارابي قد تأثر بأفلاطون وأرسطو في الكثير من أفكارهما المتعلقة بالعدالة الاجتماعية ، لكن هذا التأثير لا ينفي تفرده وأصالته في الكثير من أفكاره المتعلقة بهذا الشأن .

العدالة في الفلسفة الحديثة:

مثلت الحداثة بداية من أفكار عصر النهضة منعطفا جوهريا في تاريخ التفكير البشري ، حيث أنه بداية منها تغيرت النظرة للعالم ، وتم تجاوز التصورات المفارقة التي سادت المرحلة القروسطية في أوروبا، التي ميزتها هيمنة التفسيرات الدينية واللاهوتية على المخيال التفسيري للظواهر الطبيعية والإنسانية. 

حيث تشدد الأهمية على المحددات الانسانية والتاريخية، فكان من أبرز معالم هذا التحول الانتقال من منطق المعجزة والتفسيرات اللاهوتية والسحرية نحو منطق السببية والتفسيرات الموضوعية،وقد شملت عملية التحول هاته أغلب مجالات التفكير والقيم البشرية وعلى رأسها “العدالة” ، وفيها وجهت الأفكار الحديثة اهتمامها الى عدالة الانسان بدلا من عدالة السماء .

بدا الاهتمام بموضوع العدالة منذ بواكير انبعاث الفكر الانساني في عصر النهضة ، مع مكيافيلي ومونتاني Michel de Montaigneوغيره ، فشكك مونتاني في وجود قيمة مطلقة اسمها العدالة ، واعتبر أن العدالة ما هي إلا تمثلات نسبية لمعيارية القيم التي تحكم المجتمع. وهو الامر الذي قاده إلى التشكيك في أمكانية تحقيق العدالة واقعيا ، نظرا لعدة عوائق أهمها الطبيعة البشرية ذاتها. أما بليز باسكال Blaise Pascalوبالرغ من منافحته عن الفكر الديني المسيحي ، وإيمانه بالعدالة الكونية ذات الأصل المقدس ، إلا أنه تمثل العدالة في بعدها الواقعي الوضعي ، من حيث ربطها بالقوة أو بوجود الدولة والسلطان. فجاء في خواطره : “العدل بدون القوة عاجر ، والقوة بدون العدل غاشمة. والعدل بدون القوة يناهض ، لأن الدنيا لا تخلو أبدا من أهل الشر فيجب أن يتحدا معا ويكون كل ما هو عادل قويا ، وكل ما هو قوي عادلا .”

فإذا كانت الأفكار النهضوية الأولى متشككة عموما إزاء “العدالة” وإمكانية تحقيقها واقعيا ، فان الفلسفات النسقية الكبرى لعصر الأنوار ستقول على العكس بإمكانية تجسيد العدالة بشكل ملموس في حياتنا المعاشة ، وذلك من حيث ربطها بمقولة الخلاص الإنساني ، فبرز الاهتمام بمشكلة العدالة النظرية وامتداداتها الاجتماعية والسياسية واضحا في عدة توجهات وتيارات فلسفية رئيسية كبرى اهتمت بإشكالية العدالة في الفلسفة الحديثة .

3-1-نظرية العقد الاجتماعي :

تعتبر فكرة العقد الاجتماعي إحدى أهم الأفكار السياسية الحديثة، فمن خلالها تغيرت النظرة العامة نحو العدالة ، وتمت النقلة من سياق المحددات الغيبية التقليدية نحو أبعاد أكثر انسانية، حيث أصبح ينظر للسياسة والشرائع كنواتج عن الاتفاق بين البشر في صيغة عقد عام يحدد المبادئ العامة للشرائع السياسية والاجتماعية، وهذا ما سيسمى اصطلاحا ب”العقد الاجتماعي” ، الذي أصبح يمثل في حد ذاته نسقا لتشكل تصورات العدالة والعلاقات التبادلية التي تربط بين الأشخاص ومؤسسات الدولة وهيئاتها، كما غدت المقاربة التعاقدية مرجعية جديدة في تحديد الرؤى العامة للعدالة في المجتمع والمشروعية السياسية والتشريعات القانونية العامة، وتبلورت مقاربة العقد الاجتماعي انطلاقا من أفكار عدة أسماء فلسفية بارزة ،كان لكل واحد منه مقاربته الخاصة في فلسفة “العقد الاجتماعي.” 

3-2طوماس هوبز:                 

كان هوبز أول من تطرق لفكرة العقد الاجتماعي بصيغتها الحداثية؟، فانطلاقا من رؤية افتراضية للحالة الأولى التي كان عليها البشر قبل ظهور الدولة ، يرى هوبز بأن البشر الأوائل كانوا يعيشون في حالة عزلة وحرية ومساواة افتراضية،”فالطبيعة جعلت البشر متساويين في ملكات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!