العلاقات المغربية الجزائرية: من التوترات التاريخية إلى آفاق الحوار والتقارب
المبادرة الملكية ورغبة الشعوب في بناء مستقبل مشترك قائم على الأخوة والتفاهم

تُعد العلاقات بين المغرب والجزائر من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية في منطقة المغرب العربي، فهي تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا من الروابط الإنسانية والثقافية والدينية التي تجمع الشعبين الشقيقين، لكن هذا التراث المشترك لم يمنع أن تستمر بين الطرفين توترات عدة عبر العقود، كان لها تأثير كبير على مشهد التعاون الإقليمي وأمن المنطقة. في هذا السياق، عبر جلالة الملك محمد السادس عن موقفه الواضح والثابت تجاه الجزائر والشعب الجزائري، مؤكدًا في أكثر من مناسبة أن الشعب الجزائري شقيق للمغاربة، وأن هناك أواصر مشتركة عميقة في اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك، مشددًا على حرصه الدائم على مد اليد بكل صراحة ومسؤولية للحوار الأخوي بين البلدين بهدف تجاوز الخلافات العالقة التي تعيق مسيرة التعاون والسلام.
تعود جذور التوتر إلى عدة محطات تاريخية كان أبرزها فترة الاستعمار الفرنسي التي خلفت غموضًا في ترسيم الحدود بين البلدين، ما أدى إلى حرب الرمال في عام 1963 التي كانت نتيجة خلافات حدودية مباشرة بين المغرب والجزائر بعد استقلال الأخيرة، وقد تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بوساطة الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي. ولم تخلُ السنوات التالية من تصاعد التوترات، فقد جاءت المسيرة الخضراء عام 1975 لتشكل منعطفًا حاسمًا، حيث زادت من حدة الخلافات بسبب دعم الجزائر لجبهة البوليساريو ،الأمر الذي أضاف بعدًا سياسيًا للنزاع. ومنذ عام 1994 وأثناء الأزمات المتعاقبة، بقيت الحدود مغلقة رسميًا بين البلدين، ولم ينقطع التصعيد خاصة بعد قطع الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب عام 2021 إثر تصاعد التوترات الأمنية والسياسية.
على الرغم مما سبق، لم تغب محاولات تعزيز الحوار والتقارب، فقد شهد تاريخ المنطقة جهودًا دبلوماسية عدة، بدءًا من اتفاقيات وقف إطلاق النار التي وضعت حدًا لمعركة الحدود، مرورًا بتأسيس اتحاد المغرب العربي في أواخر ثمانينات القرن الماضي الذي هدف إلى تعزيز التعاون الإقليمي لكنه اصطدم بالتوترات القائمة، ما حال دون تحقيقاته الطموحة. وفي السنوات الأخيرة، برزت المبادرات الملكية التي دعمت الدعوة إلى الحوار والصراحة والمسؤولية كأُسس لازمة لتجاوز العقبات، حيث أبدى الملك محمد السادس استعداد المغرب الكامل للحوار الإخوي مع الجزائر من أجل بناء مستقبل مشترك يتناغم مع مصلحة الشعبين ويحقق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي إطار هذه المبادرة الملكية، رأى جلالة الملك أن الحلول السياسية الحقيقية لا تأتي إلا من خلال مد اليد والتفاهم المبني على الاحترام المتبادل، مشيرًا إلى أن هذه المبادرة تستند إلى الإيمان بوحدة الشعوب المغاربية وقدرتها على تجاوز كل الظروف الصعبة. وكان الملك قد شدد على ضرورة مشاركة المغرب والجزائر الفعالة في جعل الاتحاد المغاربي مشروعًا حقيقيًا يعكس رغبة الشعوب في التعاون والتنمية، مؤكداً دعمه لحل النزاع حول الصحراء عبر مبادرة الحكم الذاتي التي يراها خيارًا توافقيًا يحفظ كرامة الجميع.
لقد لقيت هذه المبادرة الملكية استحسانًا كبيرًا من شريحة واسعة من المغاربة الذين رحبوا بموقف الحوار والمسؤولية تجاه الأشقاء الجزائريين، معتبرين أن الأخوة والتاريخ المشترك هما مدخل أساسي لتجاوز النزاعات. أما على الجانب الجزائري، فتباينت ردود الأفعال بحسب الخلفيات السياسية والاجتماعية، فبينما رأى بعض المثقفين والنشطاء أن المبادرة فرصة لإعادة بناء الثقة، جاء استقبال جهات أخرى بحذر أو تحفظ في ظل الانقسامات والتوترات القائمة. لكن إجمالاً، تبدو هذه المبادرة بمثابة نبرة أمل تربط بين الشعوب المغاربية وتؤسس لإمكانات تنهض على السلام والتعاون الحقيقيين.
إن العلاقات بين المغرب والجزائر، بمرورها بهذه المراحل التاريخية والراهنة، تستدعي إرادة صادقة من الطرفين تترجم على أرض الواقع عبر خطوات ملموسة تعزز الحوار والتفاهم. فالوحدة التي تحدث عنها جلالة الملك ليست مجرد شعارات إنما دعوة لالتقاء الحضارات والشعوب في المنطقة لبناء مستقبل يخدم تطلعات الأجيال القادمة. هذه الرغبة في التقارب هي بلا شك المفتاح لتحقيق السلام المستدام الذي يصب في مصلحة شعوب المغرب العربي جميعًا، مع الإبقاء على الاحترام الكامل للخصوصيات الوطنية لكل من البلدين.
بهذا السياق، يبقى الأمل معقودًا على بلوغ لحظة تنسجم فيها المواقف السياسية والرغبة الشعبية لتجسيد مبادئ الحوار التي نادى بها جلالة الملك محمد السادس، وبذلك تتحول القواسم المشتركة إلى جسور تواصل تنهي سنوات من التوتر وتفتح صفحة جديدة من العلاقات المبنية على الأخوة والتعاون الاستراتيجي وتوحيد الجهود من أجل مستقبل أفضل للمنطقة بأسرها.