فن وثقافة

الكوميديا المغربية بين أصالة الماضي وتجديد الحاضر: بنسليمان نموذجًا في دعم الإبداع والتنوع

كيف تعكس مهرجانات وأعمال كوميديا بنسليمان حيوية المشهد الفكاهي وسط تحديات العصر الرقمي والتغيرات الاجتماعية؟

شهدت الكوميديا المغربية تحولات جذرية أثرت بشكل كبير على طبيعتها ومحتواها، مما يتطلب وقفة نقدية دقيقة لإعادة إحيائها بما يتوافق مع الأصالة والإبداع الفني الذي كان يميزها في مراحلها الذهبية.
كانت الكوميديا في مراحلها الأولى، وعلى رأسها فترة منتصف القرن العشرين، مرآة صادقة تعكس هموم وواقع المجتمع المغربي، حيث استندت إلى الممثلين الموهوبين ونصوص محكمة، مستخدمة لغة راقية تقدم فكاهة تجمع بين السخرية الاجتماعية والسياسية في قالب مسرحي أو تلفزيوني متقن. فقد أسهم رواد مثل المرحومان عبد القادر البدوي وشقيقه عبد الرزاق في بناء مسرح كوميدي متكامل يجمع بين الموهبة والأداء المدروس، مع تناول القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم المجتمع بأبعاد إنسانية عميقة، بعيدًا عن تقديم شخصيات نمطية صمّاء.
غير أن هذا المشهد تغير مع دخول الألفية الجديدة، حيث انعكست الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في المغرب على صناعة الكوميديا وأفضت إلى انزلاقها نحو أشكال أكثر سطحية، طغى عليها الأداء الارتجالي والنمطية كما هي الحال في شخصية “البدوي” أو “العروبي” التي تكررت كثيرًا دون تجديد أو محاولة جادة لربطها بواقع هموم الناس المعاصرين، إذ استُخدمت هذه الشخصية أحيانًا كعنصر تجاري بحت لجذب الضحك السريع، متجنبةً تعميق المعاني أو تقديم نقد اجتماعي حقيقي، الأمر الذي فتح المجال لسماسرة الفن للهيمنة على صناعة الكوميديا وتحويلها إلى أداة تسويق وربح مالي، محققة بذلك مصالح تجارية على حساب جودة المحتوى وصدق الأداء، ما أدى إلى شعور الجمهور والفنانين والنقاد على حد سواء باضمحلال روح الكوميديا الأصيلة.
هذا التغيير لم يكن معزولًا عن التأثيرات التكنولوجية المتسارعة، والتي كان لها أثر مزدوج على الكوميديا في المغرب والعالم العربي؛ فمن جهة شكلت منصة لنشر المواهب الجديدة وإتاحة فرص أوسع لتقديم المحتوى الكوميدي عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مما أنتج تنوعًا كبيرًا في الأساليب والأداءات. ومن جهة أخرى، أسهمت هذه الوسائط في انتشار الكم الهائل من المحتوى السطحي والارتجالي الذي يفتقر إلى الجودة والرسائل العميقة، مما دفع الجمهور أحيانًا إلى التفاعل النقدي السطحي أو إلى التشبع السريع بمحتويات سهلة الاستهلاك لكنه نادرًا ما يلمس العمق الفكري أو الاجتماعي.
وهنا يُضاف إلى ذلك التحدي المتعلق بجذب انتباه جمهور متنوع من حيث العمر والثقافة، حيث بات من الصعب إيجاد توازن بين الأصالة والتحديث في شكل ومضمون الكوميديا.
ومع ذلك، يمكن القول إن هناك جهودًا مستمرة لإعادة أمجاد الكوميديا المغربية من خلال تكثيف التركيز على تطوير نصوص تأخذ بعين الاعتبار الواقع المغربي المعاصر، وتعالج قضاياه الاجتماعية والسياسية بأسلوب فكاهي ذكي يجمع بين التسلية والرسالة، مع الحفاظ على جودة الأداء واللغة الفنية. تجارب مثل عمل حسن الفد في “كبور والحبيب” مثال حي على إمكانية الربط بين الأداء الكوميدي الرفيع والنصوص المعبرة التي تعبر عن التحولات الديموغرافية والاجتماعية بشكل إنساني وواقعي. كما أن الدعم المؤسسي للنقاد والفنانين يُمثل دعامة أساسية في إعادة تشكيل الذوق العام وصياغة رؤية جديدة للكوميديا بعيدة عن التكرار والنمطية، وفي توفير بيئة فنية مستقلة تحترم حرية التعبير وتحمي الإبداع من الضغوط السياسية والتجارية.
يكتسب هذا الطموح أهمية مضاعفة في ظل التأثير المتزايد للتكنولوجيا التي يجب أن تُوظف بحكمة كأداة لتطوير فن الكوميديا، ليس فقط على صعيد العرض والتقنيات المرئية والصوتية، بل أيضًا لتعزيز التفاعل مع الجمهور وتوسيع آفاق الإبداع، شريطة أن لا تتحول إلى منصة للسطحية أو مجرد إنتاج سريع لهدف الربح. فالحديث عن التكنولوجيا في الكوميديا اليوم لا يقتصر على إيجاد أدوات مبتكرة، بل يستلزم وعيًا نقديًا بالمسؤولية التي تقع على عاتق صناع المحتوى للحفاظ على جمالية اللغة ودقة النصوص ومستوى الأداء، الأمر الذي يرسخ مكانة الكوميديا كوسيلة فعالة للتعبير الثقافي والاجتماعي.
وفي هذا السياق، تمثل كوميديا بنسليمان تمثل أحد أبرز المظاهر الثقافية والفنية في المغرب، وهي تعكس حيوية المشهد المسرحي والكوميدي المحلي، حيث شهدت المدينة تنظيم مهرجانات وطنية متخصصة مثل مهرجان “كوميك بنسليمان” الذي بات حدثًا سنويًا يجمع بين نجوم الكوميديا والمسرح من مختلف المدن المغربية، ويجمع الجمهور على تجربة فنية تجمع بين الضحك والرسائل الاجتماعية.
لا تقتصر هذه المهرجانات، التي نظمت دوراتها بنجاح تحت إشراف جمعيات محلية كجمعية “لاكوميدي للفن والثقافة”، على العروض الكوميدية فقط، بل تضم أيضًا فعاليات متنوعة تشمل ندوات فكرية، مسابقات رسمية لاكتشاف المواهب، ماستر كلاس ووقفات إنسانية مثل قوافل التبرع بالدم. وتبرز لجنة التحكيم فيها أسماء معروفة في الساحة الفنية، مما يدل على اهتمام عالٍ بالمستوى الفني ومحاربة السطحية.
في المشهد نجد الفنانين البارزين من بنسليمان بالإضافة إلى المشاركين في هذه المهرجانات ونذكر الشرقي سروتي مؤسس ومنظم “كوميك بنسليمان”، الذي له حضور قوي كممثل وكوميدي ومخرج، وهو يجسد روح الكوميديا الاجتماعية الهادفة، حيث قام بإخراج وتقديم أعمال مثل مسرحية “الغميضة” التي جمعت بين الرسالة الإنسانية والفكاهة، وزادت من شعبية المهرجان وأثرت الساحة الثقافية بالمنطقة.
أما على مستوى المواهب الشابة، برز عبدالمغيث ابراهيمي كواحد من أبرز الوجوه الصاعدة في الكوميديا المغربية بعد فوزه بلقب مهرجان كوميك بنسليمان لعام 2025، معروضًا أداءً متميزًا يعكس حيوية جديدة تجمع بين الذكاء الفني والارتباط بالقضايا الاجتماعية التي تحاكي حياة الجمهور. كما يشارك في هذه الحلقات الكوميدية عدد من الفنانين المحترفين الذين يضيفون للمهرجان رونقًا خاصًا.
تُظهر التجربة في بنسليمان كيف يمكن تجديد الكوميديا المغربية عبر الجمع بين التراث الفني المحلي، الاحترافية في الأداء، واستثمار التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة لنشر محتوى فكاهي ذي جودة عالية يتفاعل مع الجمهور على مستويات مختلفة.
كما أن المهرجانات والفعاليات في بنسليمان تشكل نموذجًا يُحتذى به في كيفية دعم الفنون وتطويرها ضمن بيئة تشجع الإبداع، وتوازن بين الكوميديا السطحية التي قد تسيطر أحيانًا وبين الكوميديا الهادفة التي تحمل هموم المجتمع وروحه الإنسانية.
وبالتالي، كوميديا بنسليمان تمثل نقطة التقاء بين الأصالة والمعاصرة، بين الموهبة المتجذرة والرواد الشباب الطموحين، وهي دليل حي على أن الكوميديا المغربية قادرة على التطور والتميز من خلال بيئات محلية متماسكة تدعم الفنون والكوادر الفنية في مواجهة تحديات العصر.

يمكن القول في الخلاصة، أن الكوميديا المغربية عامة ،اليوم ،تمر بمنعطف يتطلب إعادة تقييم جذري لمنهجيات صناعة الفن الكوميدي، حيث يجب الجمع بين تبني التجديد والتقنيات الحديثة، والحفاظ على جوهر الكوميديا الأصيلة المبنية على موهبة الأداء والنص القوي الذي يعالج هموم الجمهور الحقيقي بطريقة ساخرة ومتفهّمة. والكوميديا لا يجب أن تبقى حكرًا على الأدوار النمطية والارتجالية التي تبتعد عن المجتمع، بل فنًا نابضًا بالروح الساخرة التي تقرب الناس من فهم أعمق لذواتهم وبيئتهم، وتقدم لهم مساحة للضحك الذي يحمل معاناة الإنسان وأحلامه في آن واحد. إن استعادة الكوميديا مكانتها كفن نبيل يتطلب تعاونًا بين الفنانين، الكتاب، المؤسسات، والجمهور ليشكلوا معًا حاضنة ثقافية مؤثرة تطور هذا الفن الحيوي وتعيد له مكانته الحقيقية في المشهد الثقافي المغربي والعربي.

اظهر المزيد

حميد فوزي

رئيس التحرير
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!