
دخل المغرب في مرحلة جديدة من السياسة الجنائية مع بدء سريان تطبيق القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة منذ 22 غشت 2025، ما يمثل نقلة نوعية في منظومة العدالة بالمملكة. هذا القانون الذي تم إقراره في العام السابق وجرى العمل على تنزيل أحكامه بدقة من خلال مشروع مرسوم يحدد كيفيات التطبيق، يمكّن القضاء من استبدال العقوبات السالبة للحرية، كالحبس، بتدابير بديلة تستهدف تحقيق العدالة الإصلاحية وتقليل الاكتظاظ في السجون، مع تحقيق إعادة الإدماج الاجتماعي والحد من انعكاسات السجن على المحكوم عليهم وعائلاتهم.
في أول حكم تطبيقي صدر يوم 22 غشت 2025 بالمحكمة الابتدائية بأكادير، تم اعتماد العقوبات البديلة في قضية جنحية تتعلق بالاتجار في الخمور، حيث صدر حكم بالسجن لمدة شهرين وغرامة مالية، مع استبدال العقوبة الحبسية بغرامة يومية محددة بقيمة 300 درهم عن كل يوم حبس، وهو ما يعادل 18 ألف درهم تدفع مقابل الحصول على الحرية، مما يعكس تطبيقًا عمليًا واضحًا لمقتضيات القانون الجديد.
ينص القانون على أنواع متعددة من العقوبات البديلة تتراوح بين العمل من أجل المنفعة العامة، حيث يفترض أن يؤدي المحكوم عليه عملًا غير مؤدى عنه لفائدة مؤسسات تابعة للدولة أو جمعيات ذات نفع عام لفترة تكون بين 40 و3600 ساعة، بما يتوافق مع مؤهلات وقدرات المحكوم عليه، ويجري تنفيذ ذلك خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر مع إمكانية التمديد مرة واحدة. كما يشمل القانون إمكانية إصدار حكم بالمراقبة الإلكترونية التي تسمح بتتبع حركة المحكوم عليه بطريقة تراعي ظروفه الشخصية والمهنية وسلامة الضحايا. إلى جانب ذلك، يسمح القانون بفرض تدابير تأهيلية ورقابية تشمل متابعة دراسات أو تكوين مهني، وإقامة المحكوم عليه في مكان معين مع تحديد أوقات خروجه، وطلب الحضور الدوري لمؤسسات رسمية، إضافة إلى شروط عدم التواصل مع الضحايا أو الخضوع لعلاج نفسي أو علاج ضد الإدمان، الأمر الذي يعكس توجهًا شاملًا ومتعدد الأبعاد يأخذ بعين الاعتبار إصلاح السلوك بدلاً من الاقتصار على العقاب فقط.
هذا القانون، رغم اتساع نطاقه في تقديم بدائل فعالة للعقوبات السالبة للحرية، استثنى بالضرورة عددًا من الجرائم ذات الخطورة العالية، بما في ذلك الجرائم المتعلقة بأمن الدولة، الإرهاب، الرشوة، غسل الأموال، الاتجار الدولي في المخدرات والمؤثرات العقلية، والاتجار بالأعضاء البشرية، والاستغلال الجنسي للقاصرين، وذلك ضمانًا لسلامة المجتمع وفعالية الردع في هذه القضايا الخطيرة.
ردود الفعل بين الحقوقيين والمحامين كانت متباينة ومليئة بالتفاصيل، حيث أعرب كثيرون عن ترحيبهم بالتحول الجديد الذي يستهدف العدالة الإصلاحية وتخفيف اكتظاظ السجون، مؤكدين على الدور الكبير الذي يلعبه هذا القانون في إعادة تأهيل المحكوم عليهم وتقليل الآثار السلبية للسجن. ومع ذلك، أبدى بعضهم قلقًا من التفاوت في تطبيق القانون وظهور اجتهادات قضائية غير موحدة، مطالبين بضرورة تدخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية لضمان عدالة متساوية وموحدة في كل المحاكم. كما نبه الحقوقيون والمحامون إلى أهمية توحيد الممارسات وتعزيز التنسيق بين النيابة العامة وقضاة التنفيذ لتعزيز فاعلية هذا النظام الجديد، مع التأكيد على أن التدريب والتحسيس القانوني للمحامين والمجتمع ضروري لاستيعاب هذه التعديلات خصوصًا فيما يتعلق بدور المحامي في الدفاع عن حقوق المتقاضين في ظل هذه المستجدات.
أما على الصعيد الدولي، فقد جذبت التجارب العالمية انتباه المشرعين المغاربة، حيث اعتمدت عدة دول نموذج العقوبات البديلة لتخفيف الضغط على السجون وتحسين نتائج العدالة الجنائية. أسهمت الدول الإسكندنافية مثل فنلندا والنرويج والدنمارك في تقديم نموذج ناجح من خلال العمل المجتمعي، المراقبة الإلكترونية، والبرامج التأهيلية التي نجحت في تقليل معدلات العودة للجريمة، مع تركيز قوي على احترام كرامة الإنسان وإعادة الإدماج الاجتماعي. كما استحوذت تجارب دول مثل ألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة، على أهمية العمل التطبيقي للقضاء على الاكتظاظ وتحقيق العدالة التصالحية التي تدعم فرض عقوبات تحقق إصلاح السلوك والأمن المجتمعي، مواكبة بذلك توجهات ومبادئ الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في هذا المجال.
إن التطورات التشريعية التي يشهدها المغرب مع تطبيق قانون العقوبات البديلة، ومواكبة تجاربه الدولية، تظهر حرص المملكة على تطوير منظومة العدالة لتكون أكثر إنسانية وفعالية. وتبقى التحديات الكبرى تكمن في تحقيق التنسيق بين مختلف الشركاء القضائيين، توحيد الاجتهادات، تدريب الكوادر، وتعزيز الوعي القانوني لدى المحامين والمجتمع. ويبدو أن هذه الخطوة تشكل بداية واعدة للمضي قدمًا نحو عدالة إصلاحية مستدامة قادرة على مواجهة تحديات النظام القضائي التقليدي وتجنب الآثار السلبية للسجون المكتظة، في ظل توجهات ملكية سامية تدعم سياسة جنائية تأخذ في الاعتبار التغيرات المجتمعية ومتطلبات التنمية الاجتماعية والإنسانية.