أخبار

ثورية هديوي… حين تتحول ابنة المزاب إلى مدرسة تمشي على قدمين

رشيد حبيل

يصعب الحديث عن ثورية هديوي دون استحضار ذلك الامتزاج العجيب بين الصلابة والحنان، بين الهدوء الذي يشبه نساء المزاب وبين التمرّد النبيل الذي ورثته عن أبيها، الحاج بوعزة هديوي رحمه الله، أحد الوجوه التي طبعت ذاكرة المنطقة بنضالها ووفائها. فمن هذه الجذور العميقة خرجت امرأة جعلت من التعليم قضية، ومن التربية واجباً، ومن الوطن جزءاً ثابتاً في أنفاسها اليومية. لم تكن مجرد أستاذة عابرة، بل كانت حالة إنسانية ومهنية تترك أثرها في كل فضاء تمرّ منه، سواء داخل المدرسة أو خارجها.

من يعرف ثورية هديوي يدرك أنها لم تختر الطريق الأسهل، ولم تسلك السلالم المزيّفة التي صنعتها المصالح الضيقة. اختارت طريقاً شاقاً يبدأ من القسم؛ ومن العيون الصغيرة التي تنتظر كلمة تُفتح بها نافذة نحو عالم أوسع. كانت تدرك أن التعليم ليس مجرد مهنة بل فعل بناء، وأن كل طفل يمرّ من أمامها ليس رقماً في دفتر الإحصاء بل مشروع إنسان يمكن أن يحمل في الغد مسؤوليات أكبر من حجمه اليوم.

ثورية هديوي لم تكن تُدرّس فقط، كانت تُشكّل جيلاً. كانت تمارس التعليم كما يُمارس الفن، بإتقان وصبر وحب. كل يوم كانت تعتبره فرصة جديدة لزرع فكرة، وبناء قيمة، وتعديل مسار طفل قد يضيع إذا تركته الظروف وحدها. وحين تتأمل طريقة حديثها مع تلامذتها، أو حرصها على كل تفصيل يتعلق بهم، تفهم أنك أمام امرأة جعلت من التربية امتداداً لشخصيتها، لا مجرد واجب إداري .

 

لكن التعليم وحده لم يكن يكفي لامرأة تحمل هذا القدر من الشغف. كانت الكتابة ملاذها ونافذتها نحو التعبير الحر. كلما ضاقت بها زحمة العالم لجأت إلى الورق، وكأن الكلمات هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها تهذيب الضجيج الداخلي. كتاباتها كانت دائماً صادقة، حافلة بالمعاني، ومشبعة بروحٍ وطنية لا تحتاج إلى شعارات… وطنية تُترجم في المواقف، في السلوك، في احترامها لعملها، وفي حرصها على أن يكون المواطن الذي يخرج من المدرسة مواطناً بحق، لا مجرد حافظٍ للنصوص ومرددٍ للامتحانات.

 

المحيط الذي تتحرك فيه ثورية هديوي يلمس هذا الحضور المختلف. في المكان الذي تعمل فيه، يعرفها الجميع بصبرها الذي لا ينفد، وهدوئها الذي يشبه ماء الواحات، ودقتها المهنية التي تجعل منها مرجعاً لكل من يبحث عن العمل الصالح والصورة المهنية النظيفة. لم تكن يوماً من الباحثات عن الأضواء، ولا من المتسولات لشهرة رقمية مصطنعة. كانت تريد فقط أن تترك أثراً، أثراً بسيطاً ربما، لكنه عميق، صادق، ويدوم.

 

ويبدو أن تأثير والدها، الحاج بوعزة، لم يكن مجرد تأثير عائلي. الرجل الذي عاش حياته متمسكاً بمبادئه كان مدرسة في حد ذاته. وثورية حملت هذا الإرث دون ضجيج. كانت تعتبر أن النبل لا يورّث بالخطابة، بل بالسلوك. لذلك تجدها حاضرة في كل مبادرة مجتمعية تحتاج إلى يد نظيفة ونية حسنة. كانت تتحرك بروح المواطنة الفعلية، تلك التي تُترجم إلى مواقف صغيرة لكنها تبني مجتمعاً أفضل. في الاحتفاليات، في اللقاءات التربوية، في الأنشطة الثقافية، في العمل الجمعوي، تحضر بثقلها الإنساني قبل حضورها المهني.

 

وإذا أردنا الحديث عن شخصيتها، فسنجد أنفسنا أمام تركيبة صعبة التكرار. امرأة تجمع بين الحزم والليونة، بين الصرامة الهادئة والروح المتواضعة، بين القدرة على القيادة والرغبة الدائمة في التعلم. وهي لا تتحدث عن إنجازاتها كثيراً، لأن الذين يعملون حقيقةً لا يحتاجون إلى رفع الصوت. يكفي أن ترى أثرها في نفوس تلاميذها، وفي صور الامتنان التي يحملها عنها كل من تعامل معها، لتفهم حجم هذا الحضور الإنساني الهادئ الذي يصنع فرقاً لا يختفي بسهولة.

 

ومع مرور السنوات، لم تفقد ثورية هديوي تلك الشعلة الأولى التي جعلتها تدخل مجال التعليم. لم تُستنزف، ، ولم تتحول إلى موظفة تكرر الأيام بتبلد. بقيت وفية لرسالتها، شغوفة بما تفعل، مقتنعة أن المدرسة هي المكان الذي يبدأ فيه كل شيء. وأن الوطن الذي نحلم به لن يولد في قاعات الاجتماعات، بل في القسم، عند أول كلمة يكتبها طفل، وعند أول فكرة يتعلم من خلالها معنى أن يكون إنساناً صالحاً.

 

ثورية هديوي اليوم ليست فقط أستاذة أو كاتبة أو فاعلة مجتمعية. هي صورة لنوع من النساء اللواتي يرفعن هذا البلد بصمت. نساء لا يبحثن عن التصفيق ولا عن الخطب. نساء يحملن الوطن في القلب لا في الجيب، ويجسدن المعنى الحقيقي للانتماء: العمل، التفاني، الإخلاص، والقدرة على منح الآخرين شيئا من النور في زمن تكثر فيه العتمة.

 

ولأن كل مسيرة عظيمة لها جذورها، يبقى اسم والدها، الحاج بوعزة هديوي، محفوراً في عمق الحكاية. الرجل الذي رحل جسداً لكنه ترك أثراً لا ينطفئ في ابنته. أثر النبل، والاستقامة، والوفاء. وهي بدورها حملت هذا الإرث، ونسجت منه مساراً يليق بذاكرتهم العائلية، ويليق بالمزاب التي خرجت منها، ويليق بكل تلميذ مرّ من أمامها ووجد فيها أكثر من أستاذة: وجد فيها نموذجاً، سنداً، وربما قدوةً صغيرة تكبر مع الزمن.

ثورية هديوي، مهما اختلف الناس في تقييم الأسماء، تبقى من تلك الشخصيات التي لا تحتاج إلى تقديم طويل. حضورها يكفي. صمتها أبلغ من الكلام. وأفعالها تحمل من المعنى ما لا تحمله الخطب. إنها واحدة من النساء اللواتي يشهد لهنّ العمل قبل الكلمات، والواقع قبل الانطباعات. وإن كان لهذا البلد أن يتقدم، فبفضل نساء مثلها. نساء يشتغلن كثيراً، يتكلمن قليلاً، ويتركن أثراً لا يُمحى.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!