أخباررأيسياسةمجتمع

حماية المال العام في المغرب: بين الاتهامات المتبادلة والتوجيهات الملكية والإصلاحات المنتظرة

تحديات الرقابة والمساءلة في ظل مطالب بإصلاحات قانونية وإدارية لتعزيز الشفافية ومحاربة الفساد

في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه حماية المال العام في المغرب، يبرز ملف تدبير المال العام كقضية حيوية تمس جوهر الحوكمة والشفافية في البلاد. الاتهامات المتبادلة بين المسؤولين الحكوميين ورؤساء جمعيات حماية المال العام تكشف عن أزمة ثقة عميقة، وتفتح الباب على تساؤلات جوهرية حول مدى فعالية آليات الرقابة، وصلاحيات النيابة العامة، ودور المنتخبين والمعينين في حماية المال العام من الفساد والإثراء غير المشروع.
وفي هذا السياق، جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس، في مناسبات عدة، ليؤكد على ضرورة تخليق الحياة العامة وحماية المال العام من كل أشكال الفساد، باعتبار ذلك ركيزة أساسية لتحقيق التنمية والاستقرار. ففي خطاب العرش، شدد جلالته على الالتزام بحسن تدبير الشأن العام، معتبراً أن حماية المال العام واجب وطني لا يحتمل التهاون. كما دعا جلالته في خطاب افتتاح السنة القضائية إلى الإسراع بإعداد القوانين المنظمة للمجالس الجهوية للحسابات، لتكون إطاراً قضائياً يحمي المال العام من الاختلالات. هذا التوجيه الملكي يتناغم مع التزامات المغرب الدولية، حيث صادق المغرب على اتفاقيات دولية ملزمة في مجال مكافحة الفساد والشفافية، منها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تلزم الدولة بوضع آليات فعالة للوقاية والتحقيق والمحاسبة.

محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، الذي شارك مؤخراً في برنامج “نبض العمق” على منصة “العمق المغربي”، وجه انتقادات لاذعة للحكومة التي تحصر نقاش جمعيات حماية المال العام في “ابتزاز” المنتخبين، متناسية أن الجماعات الترابية تدير استثمارات سنوية تقدر بـ50 مليار درهم، في حين تصل ميزانية الدولة للاستثمارات إلى 400 مليار درهم، دون احتساب المؤسسات العمومية والشركات الاستراتيجية. ويعتبر المسكاوي أن محاولة “تهريب” النقاش حول حكامة المؤسسات والميزانية العامة إلى دائرة المنتخبين فقط، هو استهزاء بالمؤسسات المنتخبة وبفكرة مكافحة الفساد ذاتها.
المسكاوي أثار تساؤلات جوهرية حول دستورية المادتين 3 و7 من قانون المسطرة الجنائية، اللتين وصفهما بـ”غير دستوريتين وغير قانونيتين”، معتبراً أنهما قد تكونان وسيلة لإغلاق الباب أمام الجمعيات لمراقبة تدبير مشاريع ضخمة مثل استثمارات المونديال، التي ستشهد صرف مبالغ مالية هائلة في منشآت رياضية وسياحية وفنية.
وفي رد على اتهامات وزير العدل لرؤساء الجمعيات بـ”التستر”، أكد المسكاوي أن الوزير كان ملزماً بتقديم شكاية رسمية أو فضح المتورطين، بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات، مشدداً على ضرورة إصلاح مسطرة التحقيقات التي تستغرق سنوات طويلة، مما يعيق سرعة البت في القضايا ضمن محاكمات عادلة.
كما تساءل المسكاوي عن سبب تركيز وزير العدل على المنتخبين دون التطرق إلى المعينين الذين يديرون مليارات الدراهم في مؤسسات استراتيجية، بعضهم ملاحق قضائياً بناءً على تقارير مجلس الحسابات، مشيراً إلى أن رؤساء الجماعات أنفسهم يمتلكون صلاحية التبليغ عن أي تجاوزات.

ومن جانبه، اتهم محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، البرلمانيين بتحويل البرلمان إلى أداة تشريعية تحمي مصالحهم، والضغط لمنع التبليغ عن جرائم المال العام، بل والسعي لحل الجمعيات وإنهاء نشاطها. وهذا ما يتناقض مع الدور الدستوري الذي نص عليه البرلمان المغربي، حيث أصبح ليس فقط مصدر التشريع، بل أضيف إلى اختصاصاته تقييم السياسات العمومية إلى جانب مراقبة العمل الحكومي. فقد أكد الخطاب الرسمي أن المغرب كان سباقاً في دسترة الديمقراطية التشاركية والمواطنة، وأدوار المجتمع المدني، وحق المواطنات والمواطنين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، وعرائض للسلطات العمومية، مما من شأنه إغناء العمل البرلماني وتعزيز الشفافية والمساءلة.
هذا التناقض بين الدور المنشود للبرلمان كمؤسسة رقابية وتشريعية وبين الاتهامات الموجهة له، يعكس التحديات التي تواجه الديمقراطية التشاركية في المغرب، ويبرز الحاجة إلى تعزيز استقلالية البرلمان وفعالية المجتمع المدني في مراقبة المال العام، بما يتماشى مع التوجيهات الملكية والالتزامات الدولية التي صادق عليها المغرب.
تتجلى في هذه التصريحات أزمة ثقة عميقة بين المجتمع المدني والسلطات، تعكس تحديات حقيقية في مكافحة الفساد، وتبرز الحاجة الملحة إلى إصلاحات قانونية وإدارية شاملة تشمل تجريم الإثراء غير المشروع، إعادة النظر في قوانين التصريح بالممتلكات، وضع استراتيجيات وطنية للوقاية من الفساد، ومحاربة الإفلات من العقاب.

إن الخطابات الملكية السامية تشكل خارطة طريق واضحة لحماية المال العام وتعزيز الحكامة الرشيدة، حيث أكد جلالة الملك على ضرورة العمل الجماعي والتخطيط التنموي المتكامل، مع التشديد على محاربة الفساد بكل أشكاله لضمان استقرار الوطن وكرامة المواطن. ومن هذا المنطلق، يتعين على جميع الفاعلين، من حكومة وقضاء ومجتمع مدني، ترجمة هذه التوجيهات الملكية إلى واقع ملموس عبر إصلاحات قانونية وإدارية شاملة، تضمن تجريم الإثراء غير المشروع، وتعزيز الشفافية، وتفعيل دور الرقابة والمحاسبة. كما يجب الالتزام بالمعايير الدولية التي التزم بها المغرب، لتكون حماية المال العام مسؤولية وطنية جامعة، تحقق التنمية المستدامة وتعزز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
وفي الختام، تبقى حماية المال العام مسؤولية مشتركة تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإرادة مجتمعية صلبة، لتجاوز التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة، وتحويل هذا الملف إلى فرصة لإصلاح شامل يضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار، ويجعل من مكافحة الفساد ركيزة أساسية لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.

اظهر المزيد

حميد فوزي

رئيس التحرير
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!