في ذكرى وفاة المرحومة ثريا جبران: سيدة المسرح المغربي وأولى وزيرات الثقافة في المغرب
رحلة حياة مُلهمة بين خشبة المسرح وساحات السياسة وإرث ثقافي خالد

في ذكرى وفاة ثريا جبران، نتوقف لحظة لنتذكر حياة مليئة بالعطاء والإلهام، لقد كانت امرأة تفيض بالحب والرحمة، وشخصية مشعة بالفكر والثقافة، تركت بصمة لا تُنسى في قلوب من عرفها وعرفوا قيمتها الإنسانية. نستلهم من سيرتها العطاء والإصرار على مواجهة تحديات الحياة.
وُلدت باسم السعدية قريطيف في 16 أكتوبر 1952 بمدينة الدار البيضاء وتحديداً في حي درب بوشنتوف، وهو حي شعبي يقع بالقرب من قصر السلطان، حيث نشأت في ظروف صعبة بعد وفاة والدها وانتقلت للعيش تحت رعاية زوج شقيقتها محمد جبران الذي أعارها اسمه الفني الذي صار معروفاً به. خلال طفولتها، عاشت فترة في دار الأطفال عين الشق حيث كانت والدتها تعمل، ولعبت هذه التجربة دوراً كبيراً في تعزيز وعيها بالقضايا الإنسانية والاجتماعية.
بدأت ثريا جبران مسيرتها الفنية منذ سن مبكرة على خشبة المسرح البلدي في الدار البيضاء، لتصبح واحدة من نجمات المسرح والسينما المغربية التي جسدت من خلال أدوارها مشاكل الفئات المهمشة والمعاناة الاجتماعية. كان لها دور بارز في تشكيل فرق مسرحية عدة منها “مسرح الفرجة” و”مسرح الشعب” و”مسرح الفنانين المتحدين”، وأسست وأدارت فرقة “مسرح اليوم” التي مثلت نقطة تحول في المسرح المغربي والمسرح العربي عموماً. في هذا الفضاء المسرحي، كشفت ثريا جبران عن الخروقات السياسية والمآسي الاجتماعية وحولتها إلى مسرحيات نقدية ساخرة قريبة من المخيال الشعبي المغربي. تعاونت مع كبار المسرحيين مثل الطيب الصديقي وعبد الواحد عوزري، وقدمت أعمالاً مسرحية حملت رسائل نقدية عميقة قريبة من الواقع المغربي، مما جعلها صوت المستضعفين والمنكوبين.
لم تقتصر إنجازات ثريا جبران على المجال الفني فقط، بل دخلت الميدان السياسي حين عينت وزيرة للثقافة في الحكومة المغربية عام 2007، لتصبح أول وزيرة فنانة في تاريخ المغرب السياسي. خلال فترة توليها الوزارة، أولت اهتماماً خاصاً بالجانب الاجتماعي للفنانين من خلال تنفيذ قوانين لحماية حقوقهم مثل قانون بطاقة الفنان والتغطية الصحية، بالإضافة إلى دعم مسرح الهواة وتنشيط الحياة الثقافية في مختلف المناطق. ورغم قصر فترة تواجدها بسبب مشاكل صحية، إلا أن تأثيرها في الساحة الثقافية ظل عميقاً ومحفوراً في ذاكرة الفن المغربي.
حصلت على وسام الاستحقاق الوطني المغربي من الملك الحسن الثاني، ووسام الجمهورية الفرنسية للفنون والآداب بدرجة فارس، وهي أوسمة تعبر عن اعتراف محلي وعالمي بإسهاماتها الفنية والإنسانية. رحلت في 24 أغسطس 2020 بعد صراع مع المرض، لكنها تركت إرثاً فنياً وثقافياً وإنسانياً عظيماً يحمل بصمة التزام بتحدي الظلم والوقوف إلى جانب المهمشين، لتظل رمزاً للأمل والإبداع والعمل المستمر من أجل المجتمع. سترث الأجيال القادمة من قصتها دروس الصمود والعطاء، وتحفظ في ذاكرتها سيدة المسرح المغربي التي كانت بحق صوت الإنسان وضميره الحي.
شهدت تجربة المسرح المغربي، التي جسدتها ثريا جبران بكل قوة وعمق، تحولات جذرية انعكست في علاقة الجمهور بالنص المسرحي، حيث تغيرت استراتيجيات التلقي وأصبح الجمهور مشاركاً فاعلاً لا مستقبلاً سلبياً. هذا التغير يعكس ديناميكية المسرح وقابليته للتفاعل مع التغيرات الاجتماعية والثقافية، ويؤكد أن العملية المسرحية تكتسب معنى جديداً من خلال التفاعل بين النص والمتلقي، الذي يضيف أبعاداً وتأويلات مختلفة وفق تجربته الثقافية والاجتماعية. لذا لم يكن الجمهور عند ثريا جبران مجرد مشاهد، بل كان شريكاً أساسياً في خلق المعنى الحي والنابض الذي يبرز في كل عرض.
ختاماً، فإن التحولات المسرحية التي شهدها المسرح المغربي والعربي، وتغير استراتيجيات التلقي التي أضفت حيوية جديدة على العلاقة بين النص والجمهور، تجد أبلغ تعبير في مسيرة ثريا جبران الفنية والثقافية، التي كانت شاهدة على قدرة الفن على التأثير والتغيير، فكانت صوتاً وإنسانية في آن معاً، وتبقى إرثها منارة للأجيال تسير على دربها في ساحات الفن والنضال الثقافي.
لذلك ندعو الله أن يتغمدها برحمته التي وسعت كل شيء، ويمد في نور إرثها الذي يحمل رسالة ثقافية وإنسانية تستمر في إلهام الأجيال، وأن يجعل مقامها بين الصالحين في أعلى جناته. اللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها وأكرم منزلها وارزقها الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. اللهم ألهمنا جميعاً أن نسير على دربها في العطاء والإبداع، وأن نستلهم من قصتها قيم الحب والرحمة والإصرار على النضال في سبيل ارتقاء الثقافة والفن والإنسانية. آمين.