قراءة في أنابيش الذاكرة الفنية الغرباوي ذلك المجذوب
بقلم: محمد خصيف فنان تشكيلي وناقد جمالي -
في هذا النص سأتناول سيرة الفنان الجيلالي الغرباوي (1930-1971) ليس بهدف إعادة فحوى الكاسيت المتداولة في الكثير من النصوص التأريخية والمتون النقدية ولكن استقراءً لبعض الكتابات “الجادة” ذات الصبغة “الموضوعية” حتى نتمكن من إماطة الثرى عن المطمور بين السطور.
تعرض الفنان الجيلالي الغرباوي كمبدع مغربي، وتعرضت أعماله لانتقادات عنيفة ومريرة وأحيانا غير موضوعية يغلب عليها التحامل التعسفي الذي لا مبرر له إطلاقا، من طرف خليل لمرابط، لا لشيء إلا لكون الغرباوي قال بصريح العبارة: “…بدأت الرسم التجريدي عام 1952. بالعودة إلى المغرب، شعرت أنه يتعين علينا الخروج من تقاليدنا الهندسية حتى ننجز لوحة حية: إعطاء الحركة للقماش، وإحساسًا إيقاعيًا، والأهم من ذلك، بالنسبة لي، العثور على الضوء” ، ومن ثم اعتبر لمرابط الغرباوي منتوجا هجينا فبركته الحماية فجعلته يتنكرلأصوله ويستهين من قيم جذوره . أتساءل بغرابة كيف أمكن لخليل لمرابط أن يرمي الرجل بكذا أوصاف غاضا الطرف عن جانب مهم من كلام الغرباوي، جانب مشحون بأفكار مقتبسة من السجل الإستيتيقي قد لا يعيها سوى من يتوفر على حمولة ثقافية/فنية واسعة، وأنا هنا لا أتهم لمرابط بأي نوع من الإخفاق أو جهالة فنية معينة، فهو الأستاذ الأكاديمي المتخصص في الجماليات والفنون. أكن له كل الاحترام، ولكن حينما يتعلق الأمر بمقاربة نقدية فنية، وجب على كل باحث علمي أن يلتزم بالموضوعية وبالحياد النقدي في بحثه.
كان الغرباوي سابقا لزمانه. فمن في ذلك الوقت، من أقرانه من الفنانين المغاربة، ممن كانوا قادرين على التحدث والتحاور ببعد معرفي وفكري وفلسفي بلغة الفن، موظفين مصطلحات من قبيل: اللوحة الحية وحركة القماش والإحساس الإيقاعي؟ ومن منهم سعى وراء القبض على الضوء/النور وترجمته على فضاء منجز فني؟!
قد نتساءل: مَن مِن الفنانين المغاربة لم يخضع فكره وشخصيته وكامل سلوكه لقولبة الحماية الفرنسية؟ لم يكن أمامهم أي بديل سوى “الاستيعاب أو التحجر” حسب ألبير ميمي الذي استشهد به لمرابط كثيرا. يرسم ميمي في كتابه Portrait du colonisé سلسلة من صور المستعمِر والمستعمَر: المستعمِر الذي يرفض التوافق مع مستعمَر مخجل، حريص على التستر وراء الاستيعاب. أليست الممارسات الفنية المتداولة منذ بداية القرن العشرين، لحظة ظهور محمد بن علي الرباطي ورسامي “الفن الساذج” ومرورا بزوبعة الحداثة الفنية المستظلة بإزار الأصالة والمعاصرة، لستر عوراتها، خلال عقدي الستينات والسبعينات، ثم الأجيال التي تلت تلك الفترة (تلاميذ ومقلدي جماعة 65، وفناني مدرسة تطوان…) ووصولا إلى ناسخي أساليب الفنون المعاصرة من تجهيز وأداء وغيرهما، أليست كلها ممارسات فبركتها أصلا الحماية الإسبانو فرنسية؟!
انتهى عهد الحماية بحصول المغرب على استقلاله السياسي، وظهرت الفرنكفونية المعولمة لتحكم قبضتها على الفكر والثقافة والفن، ليس في المغرب وحسب ولكن في سائر الدول المستعمَرَة سابقا.
بالعودة إلى المرجع الذي اعتمد عليه خليل لمرابط في بناء أطروحته، نجده يستعمل المقص ليأخذ من كلام ألبير ميمي ما يتناسب مع أفكاره وقراءاته حتى يزكيها. الفقرة التالية الموجودة بالصفحة 131 من العنوان المذكور آنفا لا تعكس أبدا شخصية الغرباوي الفنية كما رسمها لمرابط وشبعة من بعده. كتب ميمي: “طالما أنه يدعم الاستعمار، فإن البديل الوحيد الممكن للمستعمَر هو الاستيعاب Assimilation أو التحجر Pétrification. لم يقبل منه الاستيعاب (…) كل ما تبقى له هو أن يعيش خارج الزمن. إنه مرفوض من قبل الاستعمار، رغم محاولات التعايش معه. ممنوع عليه تصور وبناء مستقبل، لذلك يكتفي بالحاضر؛ وهذا الحاضر نفسه مبتور وغير واضح”.
حقا أن الجيلالي الغرباوي من المستعمَرين، لكنه لم يكن يعيش خارج زمانه، الزمن الفني، الذي استلهم منه فنه. لم يكن تجريده يذكر بأسلوب تم عزله في أرشيف الزمن. فهو يعبر بالتجريد لأنه يساير العصر كما قال. كان منجزه معاصرا لجيل الرسامين الذين مارسوا وشجعوا فنا ذا ميول غير تصويرية، نوعا من التجريد الإيمائي الغنائي (أنفورميل)، منهم جان بازين (1904-2001)، ألفريد مانيسييه (1911-1993)، روجر بيسيير (1886-1964)، جان لو موال (1909-2007)، إدوارد بينون (1905-1993) وموريس إستيف (1904-2001). مارس هؤلاء الفنانون شكلاً من أشكال الفن قريبًا من التجريد الخالص كتعبير عن مقاومتهم لطغيان الواقعية الدعائية التي شجعها النظامان النازي والسوفياتي. ومن هناك برز تجريد الغرباوي في بداية خمسينات القرن العشرين كمقاومة ضد الأساليب المتداولة في المغرب آنذاك والتي كانت إدارة الحماية تشجعها. ” اللوحة التي تعرضها البعثات الأجنبية في المغرب هي لوحة مصنفة بالفعل وتشكل جزءًا من ماض متشظي (…) اللوحة الغرائبية التي يصنعها الأجانب وأحيانًا المغاربة تعيق مسيرتنا. اللوحة التي ولدت في المغرب تحت الحماية لتسلية ذوق الضباط وغيرهم، والمرفوضة أصلا في فرنسا، تحتل مركز الصدارة هنا وتعيق تطور الرسم المغربي”.
وعي الغرباوي الفائق وفكره الثاقب والمُجَلي دفعا المستعمِر ليُيَسِّرِ أمامه أفق الالتحاق بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس موفرا له منحة دراسية غطت مصاريفه ومتطلباته المعيشية من 1952 إلى 1956. كتب غاستون ديل Gaston Diehl (1912-1999) أحد مؤرخي الفن وكتاب السير والنقاد الفرنسيين البارزين من عهد الاستعمار يشيد عمل الغرباوي في نص تقديم الكتالوج الصادر بمناسبة معرض نظمه أندريه غولدنبرغ للمراكز الثقافية الفرنسية في المغرب عام 1960: “بفضل التجريد، تخترق الغنائية، المشبعة بالحنان الإنساني، اللوحات وتحملها بعيدًا في زخمها القوي. يستحوذ الغرباوي في شباك الحلم على مساحات لا يمكن التنبؤ بها من رشفات الأزرق اللازوردي والأمل، ويبدو أنه يستحضر، كشاعر، السحر الأبدي للنور المغربي، ممزوجًا بنوافذ مفتوحة على السماء أو البحر”؟
يضيف لمرابط في حديثه عن الغرباوي: ” مع هذا الفنان، هذا الرائد، يكتشف المغرب، الرسم التجريدي اللاشكلي Informel وأسطورة الرسام الملعون الذي يقف ضد تقاليده والقيم المقبولة في عصره وفي بلده: فنان أسيء فهمه لعدم مطابقته للمعايير السائدة” . كيف يصح أن يوصف الغرباوي بكذا أوصاف تَنمُّرية مع العلم أن التزامه بقضايا أمته جعله الفنان المغربي الوحيد الذي عبر عن تضامنه مع الشعب الجزائري حين وقوع الحدث الدموي في 20 سبتمبر 1960. أبدع الغرباوي عملا ملتزما بعنوان “تمرد” insurrection. كانت اللوحة تعبيرا نضاليا لفنان ملتزم، وبيان غضب عما جرى في ذلك اليوم من أحداث دموية بسبب محاولة سحق مظاهرة الاستقلال من طرف الاستعمار الفرنسي. وبالمناسبة يجب أن نذكر القارئ أن غايتنا من هذه النصوص المراجعة لتاريخ الحركة التشكيلية بالمغرب تلزمنا بالإشارة إلى فنان مغربي آخر كان يملك التزاما سياسيا ووعيا وطنيا بقضايا المغرب وحراكه النضالي من أجل الحرية والاستقلال، وأقصد هنا الفنان مولاي أحمد الإدريسي (1924-1973)، رفيق الغرباوي في الدرب.
أجل، أسيء فهم الغرباوي من طرف أقرانه من فناني عصره لأن مسلكه كان متحررا من كل مرجعية ثقافية شكلانية محلية، ومع ذلك لا يجب أن يفهم أنه قطع كل صلة بجذوره كما اعتقد لمرابط حينما وصفه بالمتجاهل بشكل واضح لمنابع أصوله، أو يُظَن أن الغرباوي كان في غيبوبة ولم يكن يهتم بقضايا الوطن العربي. فقد كان الغرباوي على وعي تام بقيم جذوره وبالتراث الذي شكّل بالنسبة له رافدا بصريا “، خام يفيض بالعاطفة والحركية: “لقد كان التقليد بالتأكيد مساهمة بصرية بالنسبة لي”. وكان عمله تجاوزا للذات المبدعة، لذلك سيظل المتلقي، حينما يتأمل أعمال الجيلالي الغرباوي، معجبا “بالقوة الجامحة والصمت المخملي، والطقوس السحرية للصدفة والتخلص من وطأة الفتنة، والعافية التشكيلية المنفصلة عن الماضي.”
وحتى ندرك تجاوز الذات المبدعة، نعود إلى التأويل الذي قدمه موليم لعروسي حين ربط جمالية الجيلالي الغرباوي البصرية بجمالية أدائية بالمفهوم المعاصر كان المجذوب يلعب فيها دورا رئيسيا. فالغرباوي بتبنيه للفن التجريدي، وبدون وعي منه حسب لعروسي، افتتح لأول مرة ممارسة كانت ذات يوم حكراً على الكلمات والموسيقى . يمكن ربط حالة الغرباوي بحالات مجاذيب المغرب الذين عرفوا بحيوات شاذة وخارجة عن نطاق المعلوم والمعقول. اسمه الشخصي يحيل على عبد القادر الجيلاني أحد المتصوفة العارفين. ولا نشك في أن والديه منحاه هذا الاسم تيمنا ببركة الولي الصالح. الغرباوي نسبة إلى قبيلة الغرب المغربية المعروفة بتقاليدها العريقة وتراثها الشفهي والموسيقي. رسومه عبارة عن شطحات أوجِذاب لا تكف أبدا عن تخطيط عنيف لدوائر لانهائية وتسْطير خطوط لولبية وإهليجية غوايةً في الإحاطة بآثار نورانية روحانية، تحيل اللامرئي مرئيا ليكشف عن ملامح حالة عود أبدي إلى السوالف السّائخة في غياهب اللاوعي، تغمر الوعي للتأكيد على نشوة الجسد رغم حالات الأسى والتذمر الرفيقة للذات والطافية بعنف على السطح من حين لآخر. فالحقيقة، كما قال ميرلوبونتي. “أن ھذا اللاوعي الذي يجب علینا أن نبحث عنه، لیس في أعماقنا، ولا خلف ظھر “وعينا”، وإنما أمامنا، كنطق لمیداننا. وھو “لاوعي” لأنه لیس موضوعا ولكنه ھو ذاك الذي تتحقق به كينونة المواضیع. إنه التبلور حیث یرقد مستقبلنا (…) إنه “الشاة الضالة” لحیاتنا القصدیة واختلاط الآخرین في داخلنا ونحن في داخلھم”. إذن، فحالة الغرباوي “الشطحية” إن جاز التعبير، تفوق كون التقليد Tradition “مدخلاً بصريًا بالنسبة” له. وذلك ما تعسر على فهمه واستيعابه عند منتقديه فرموه بما رموه به من الأوصاف النابية.
وصفت حركية الغرباوي، كما أشرنا سلفا، بأنها “عافية تشكيلية منفصلة عن الماضي”، لأن مبدعها يسعى إلى التحرر من القيود والأغلال التي طالما كبلت أجيالا برزت بعده وجعلت الفن يكرر نفسه بلا استحياء، حيث نجد ثلاثة أساليب مهيمنة على المشهد التشكيلي طيلة أربعة عقود – ومازالت النسخ المشوِّه متداولة إلى اليوم مما خلق أزمة إبداع هائلة على المستويين الممارساتي والتنظيري – : الفن البدائي (أو الفطري) والفن التصويري الأكاديمي والأسلوب التجريدي بنوعيه الهندسي والغنائي، مما نتج عنه نوعا من “الرداءة المكتنِفة” « médiocrité ambiante » حسب تعبير الناقد التونسي جلال قصراوي .
وقد عبر عن ذلك الجمود محمد شبعة بقوله والأسف يعصر قلبه لكونه رأى تجربة جماعته الحداثية واشكة على ولوج عنق الزجاجة، لم تجد من الشباب فردا واحداً واعداً يحرك عجلة قطارها بعدما توقف عن السير مع أواسط عقد السبعينات، وبالضبط بعد معرض السنتين العربي الثاني الذي أقيم بالرباط خلال الفترة 27 دجنبر 1976 – 27 يناير 1977 :”فإذا حاولنا مراجعة ما ترتب عن ھذه التجربة [تجربة جماعة 65] (والتجارب المماثلة لھا مثل معرض جامع الفنا، وبعض إلأعمال في ثانویات البیضاء… ثم العمل التربوى الذي ینطلق من نظرة بیداغوجیة قویة مضادة للفكر الأكادیمي الغربي)، وحاولنا معرفة ما إذا حصل ھناك تقدم ما، فإننا سنجد أمامنا ما يلي: لقد كان من المنتظر بالنسبة لنا – كعناصر ساهمت في المبادرة الأولى –(…) أن يستفيد الشباب الذين برزوا بعدنا من معطيات تجربتنا، مع النظر إليها نظرة نقدية. كما كان من المفروض أن يكون أولئك الشبان أكثر ديناميكية وأن يدفعونا بدورنا قدما إلى الأمام، إذ كنا قد بقينا حبيسي نوع من الأكاديمية الخاصة بنا، حبيسي نوع من الدوران في عملنا الخاص، الذي لا يتقدم بالسرعة المطلوبة. لكن المدهش ھو أنه لا یوجد ولا عنصر واحد یمكن أن یدفعك الى التحرك ویجعلك تحس بأن ھناك تغييرا وإضافات ونقدا لتجربة معینة، وبأن عناصر جدیدة قد دخلت الى ھذه التجربة.”
يقصد شبعة بكونهم حبيسي نوع من الأكاديمية (من الاشتقاق الصرفي Académiser)، أي بمعنى أن تجربتهم تجمدت وتخشبت ولم تجد جيلا وارثاً ينفخ فيها الروح من جديد. وهذا راجع إلى عدة عوامل داخلية وخارجية سنتناولها بالدرس والتحليل حين حديثنا عن جماعة 65.
هوامش ومراجع:
Déclaration de Gharbaoui, Souffle n° 7/8, 1967, p. 54
Khalil M’rabet. Peinture et identité l’expérience marocaine, L’Harmatan, Paris, 1987, p.77
Albert Memmi, Portrait du colonisé, Ed. J.J. Pauvert, Paris 1966.
Idem. p. 131
Souffle op. cit. , p. 55
M’rabet. Op. cit. , p. 78
عبد الكبير الخطيبي، الفن العربي المعاصر: مقدمات، ترجمة فريد الزاهي، منشورات عكاظ، 2003. ص. 24
Moulim El Aroussi. Identité et modernité dans la peinture marocaine, zoom sur les années 60. Edition Loft Art Gallery, Décembre 2012
عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني(1077-1166) ، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، يعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلالي، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب “سلطان الأولياء”، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي شافعي، لقبه أتباعه بـ”باز الله الأشهب” و”تاج العارفين” و”محيي الدين” و”قطب بغداد”. وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
ميرلو بونتي- المرئي واللامرئي، ترجمة عبد العزيز العيادي، مراجعة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة ط. 1، بيروت 2008 ص. 282
في تقريره الموسوم ” La peinture arabe, des intentions à la pratique : un gouffre” عن معرض السنتين الثاني المقام بالرباط عام 1976، يتحدث الناقد الفني التونسي جلال كسراوي عن “الفنانين العرب المخالفين لمواعيد تاريخ الفن”. (ينظر في)
KESRAOUI Jellal, février 1977, « En marge de la 2e Biennale arabe des arts plastiques (Rabat, 27 décembre 1976-27 janvier 1977), la peinture arabe, des intentions à la pratique : un gouffre », Dialogue, 127, p. 70-71.
محمد بينيس، “جماعة 65بين الاطمئنان والقلق. حوار مع محمد المليحي، محمد شبعة، فريد بلكاهية”، مجلة الثقافة الجديدة، السنة الثانية، العدد 7، ربيع 77، صص. 47-48