“لا يولد الإنسان مدنيًا: بين انحطاط السلوك وإمكانيات التغيير”.

زكرياء بندالي
لا يولد الإنسان مدنيًا، بل يُصنع فالمدنية ليست غريزة فطرية، بل ثمرة مسار طويل من التربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية. إنها نتاج تفاعل معقد بين الفرد والمجتمع، بين السلطة والقيم، بين المؤسسات وأنماط العيش اليومية. وفي هذا السياق، يصبح السلوك المدني انعكاسًا مباشرًا لنمط البناء الاجتماعي السائد، وللقدرة الجماعية على إنتاج ثقافة قائمة على الاحترام، والمسؤولية، والمشاركة.
في الواقع المعيشي، تتجلى مظاهر متعددة لانهيار السلوك المدني. نرى ذلك في الشوارع التي تحولت إلى فضاءات للفوضى والعنف، وفي المؤسسات التعليمية التي فقدت بوصلة القيم، وفي غياب الالتزام بالقانون في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، من رمي الأزبال في غير محلها، إلى التجاوزات المرورية، إلى العنف اللفظي والجسدي الذي أصبح اعتياديًا في الفضاءات العمومية. هذه المظاهر ليست سلوكيات معزولة، بل مؤشرات على تآكل الرابط الاجتماعي، وانحسار الوعي الجماعي، وغياب تربية مدنية فعالة.
إن التحديات التي تعرقل بناء سلوك مدني راسخ كثيرة، من بينها ضعف المدرسة العمومية كمؤسسة للتنشئة، وغياب برامج حقيقية للتربية على المواطنة، وهيمنة أنماط تواصل وسائطية تُكرّس الفردانية والسخرية من القيم الجماعية، وتفشي الفقر والتهميش، بما يولد شعورًا عامًا باللامبالاة واللاانتماء.
لكن مقابل هذه التحديات، يمكن اقتراح مسارات عملية لإعادة تأسيس السلوك المدني كمكون أساسي للحياة المشتركة. أول هذه المسارات هو إعادة الاعتبار للمدرسة كفضاء لبناء المواطن، عبر إدماج منهجي للقيم المدنية والمهارات الاجتماعية في المناهج التربوية، مع تمكين الأطر التربوية من أدوات بيداغوجية فعالة. ثانيًا، تعزيز الفعل الثقافي والمجتمعي في الأحياء والمؤسسات العمومية، من خلال مبادرات شبابية، وأنشطة فنية وتربوية تكرس قيم الاحترام، والنقاش، والتعاون. وثالثًا، ضرورة انخراط الدولة في مشروع وطني متكامل لبناء المواطنة، قائم على العدالة الاجتماعية، والكرامة، والمساواة في الولوج إلى الخدمات والحقوق.
السلوك المدني لا يُولد مع الإنسان، بل يُبنى بصبر وعزيمة، عبر صيرورة مستمرة من التكوين الفردي والتنشئة الجماعية. إنه مشروع جماعي يتطلب تضافر الجهود، وتكامل الأدوار، وإرادة سياسية حقيقية تؤمن بأن بناء الإنسان هو المدخل الأساسي لبناء مجتمع ديمقراطي، عادل، ومتضامن.