فن وثقافة

من صخب النهار إلى هدوء الغروب: رحلة فلسفية مع “رحيل النوارس” في شعر عبد الحفيظ بوساحة

النوارس كرمز للرحيل والغياب: وداع في مواجهة المجهول

الفن الحقيقي هو ما يدفعنا للتفكير، ويوقظ فينا أسئلة لم نكن ندرك وجودها. بهذا المعنى، لا تعد قصيدة “رحيل النوارس” للشاعر عبد الحفيظ بوساحة مجرد عمل أدبي، بل هي دعوة مفتوحة للتأمل في المعنى الكامن خلف تفاصيل حياتنا اليومية. من صخب النهار إلى هدوء الغروب، ومن طواف النوارس الأخير إلى شاطئ مهجور، تتجلى حكمة فلسفية تلامس قلوب وعقول القراء، مما يجعلها تستحق قراءة متأنية ومتعمقة.

عن الشاعر عبد الحفيظ بوساحة
عبد الحفيظ بوساحة هو شاعر مغربي معاصر، يتميز بأسلوبه الشعري الذي يمزج بين البساطة والعمق الفلسفي. تنبع كتاباته من تأملاته في الطبيعة والوجود، حيث يستخدم رموزاً طبيعية مثل البحر والنوارس والصخور ليعبر عن قضايا الإنسان الوجودية كالرحيل، الزمن، والهوية. يُعتبر بوساحة من الأصوات الشعرية التي تسهم في إثراء المشهد الأدبي المغربي المعاصر، مقدماً نصوصاً تدعو القارئ إلى التفكير والتأمل في جوهر الحياة.

تبدأ قصيدة الشاعر عبد الحفيظ بوساحة ،بتصوير النهار كزمن حافل بالحركة والصخب، حيث “طول النهار / ضجيج صاخب!” يعكس حالة الوعي والنشاط التي يعيشها الإنسان في حياته اليومية. هذا الضجيج ليس مجرد صوت، بل هو رمز لتداخل التجارب والأحداث التي تشكل حياة الإنسان. مع اقتراب الغروب، تتحول الأجواء إلى حالة من السكون والهدوء، “مع الغروب / يعم الهدوء!”، وهو انتقال يعكس دورة الحياة من النشاط إلى السكون، من الوعي إلى التأمل، ومن الحضور إلى الغياب.
النوارس في القصيدة ليست مجرد طيور تحلق فوق البحر، بل هي رموز للأرواح أو الكائنات الحية التي تغادر مكانها في رحلة غير معلومة الوجهة. “رحيل النوارس / فوق موج البحر / طواف أخير!” تعبير عن اللحظة الأخيرة قبل الفراق، حيث يطوف الطائر في الهواء في وداع أخير قبل أن يغادر. الشاطئ الذي يتركه النوارس يصبح “شاطئ مهجور!”، رمزاً للفراغ الذي يتركه الغياب، وللوحدة التي تفرضها رحلات الوداع.
تتكرر فكرة الرحيل في القصيدة مع تأكيد على أن النوارس تغادر “أسراب أسراب / وجهة مجهولة!”، مما يفتح الباب أمام تساؤلات وجودية حول مصير الإنسان بعد الحياة، وعن الغموض الذي يكتنف الرحلة الكبرى التي يخوضها كل كائن حي. هذا الغموض يشكل محوراً فلسفياً أساسياً، حيث يواجه الإنسان المجهول بلا يقين، مما يدفعه إلى التأمل في معنى الوجود والرحيل.
تختتم القصيدة بصورة الأمواج التي “تهيّج” وتتلاقى مع الصخور، تعبيراً عن الصراع الدائم بين قوى التغيير والحركة (الأمواج) وقوى الثبات والصلابة (الصخور). هذه الصورة تعكس التوتر الوجودي بين الرغبة في التغيير والحرية، وبين القيود التي تفرضها الحياة والواقع.
تقدم قصيدة “رحيل النوارس” رؤية فلسفية متكاملة حول دورة الحياة والموت، حول الزمن الذي يمضي بلا رجعة، وحول الرحيل الذي لا مفر منه. النوارس، البحر، الشاطئ، الأمواج، والصخور ليست مجرد عناصر طبيعية، بل هي رموز تحمل دلالات عميقة عن الوجود، الرحيل، الصراع، والفراغ.

وختاما ، تذكرنا القصيدة بأن الحياة رحلة مستمرة من الحركة إلى السكون، من الظهور إلى الغياب، وأن الغموض يظل يحيط بمصيرنا، مما يحثنا على التأمل والتفكر في معنى وجودنا.
وهكذا، نكتشف أن “رحيل النوارس” ليست قصيدة تُقرأ مرة واحدة وتُنسى. إنها دعوة للتأمل المتجدد في دورات الحياة الكبرى، وفي تفاصيلها الصغرى. يدعونا بوساحة من خلالها إلى إعادة النظر في معنى الصخب والهدوء، الحضور والغياب، والوجهة المجهولة التي تنتظر كل منا. لعل هذه القصيدة تصبح بداية لرحلة تأملية جديدة في أعماق الروح البشرية والطبيعة التي تحتضنها.

اظهر المزيد

حميد فوزي

رئيس التحرير
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!