أخبار

ملف الفرشي بليساسفة معركة الساكنة ضد التلوث والصمت الرسمي

حكيم سعودي

لم تكن التغطية الإعلامية التي قامت بها القناة الثانية لمعمل “الفرشي” في رياض صوفيا بليساسفة سوى انعكاس لمشهد متكرر من التجاهل الرسمي لمعاناة الساكنة حيث اكتفى التقرير بتصريحات مقتضبة لا تحيط بجوهر المشكل بل بدت أقرب إلى تبرير استمرار هذه الوحدة الصناعية وسط تجمع سكني يعاني من انبعاثات دخانية سامة. في حديثه أكد المسؤول عن المعمل الذي فضّل إخفاء وجهه أن المصنع كان موجودًا قبل مشروع التهيئة العمرانية متجاهلًا التحولات التي شهدتها المنطقة وتزايد عدد الأسر المقيمة فيها كما أشار رئيس المجلس الجماعي إلى أن المصنع يشغل أبناء المنطقة وكأن توفير فرص شغل محدودة يمكن أن يبرر الأضرار البيئية والصحية التي يتعرض لها السكان يوميًا.

 

خاضت الجمعيات المدنية لسنوات طويلة معركة مفتوحة ضد هذا الوضع، إذ قدمت عشرات الشكايات والتقارير إلى الجهات المختصة دون أن تلقى أي تجاوب حقيقي. ومع كل محاولة جديدة كان الجواب يأتي بأبواب موصدة وعراقيل بيروقراطية، ما جعل الساكنة تعيش إحساسًا مزدوجًا بالقهر واليأس خاصة حين يتفاقم الوضع الصحي للأطفال والمسنين بسبب تلوث الهواء. وعلى الرغم من أن جريدة “الصباح” سلطت الضوء مؤخرًا على هذه المعضلة، مما دفع حزب التقدم والاشتراكية إلى إثارة القضية في البرلمان، إلا أن واقع الحال لم يتغير مما يعزز القناعة بأن هناك مصالح خفية تحول دون اتخاذ قرارات حاسمة في هذا الملف.

 

تبريرات الجهات الرسمية لم تكن أقل غرابة من صمتها الطويل، حيث استندت إلى نتائج تحاليل لجودة الهواء أجراها مختبر تابع لصاحب المعمل نفسه، لتؤكد أن الدخان غير مضر بالصحة، وكأن معاناة السكان اليومية ونوبات الربو، والاختناقات المتكررة، مجرد أوهام لا تستحق النظر. يتساءل السكان: هل يمكن لأي دراسة علمية أن تنكر الآثار المباشرة التي يشعر بها من يعيشون في محيط المصنع؟ وهل يُعقل أن يستمر الوضع تحت ذريعة أن المصنع كان موجودًا قبل المشروع السكني، رغم أن الواقع اليوم يفرض أولويات مختلفة تضع صحة الإنسان فوق أي اعتبار؟

 

زهور رئيسة ائتلاف جمعيات المجتمع المدني للترافع عن الشأن المحلي اعتبرت أن التغطية الإعلامية لم تكن سوى انعكاس لنهج انتقائي يسلط الضوء على بعض الجوانب بينما يترك أخرى أكثر أهمية في الظل، مضيفة أن المجتمع المدني لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه التجاوزات. الخيار الوحيد المتاح اليوم هو التصعيد القانوني، عبر رفع دعوى قضائية لإجراء خبرة مضادة حول جودة الهواء، ومطالبة الجهات المسؤولة بالكشف عن الوثائق والدراسات التي تستند إليها في قراراتها، وفضح أي محاولات لطمس الحقائق أو التلاعب بها.وفي ظل هذا الوضع، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: إلى متى سيظل صوت المواطنين غير مسموع، بينما تُمنح الأولوية للمصالح الاقتصادية على حساب صحة الإنسان؟ متى ستتحرك الجهات الوصية لوضع حد لهذه المهزلة، بدلًا من الاكتفاء بتصريحات شكلية لا تغير من واقع الحال شيئًا؟ قد تكون المعركة طويلة، لكنها ليست مستحيلة، فما ضاع حق وراءه مطالب، والساكنة عازمة على مواصلة نضالها حتى تتحقق العدالة البيئية، مهما كانت الجهة التي تحاول التستر على هذا الجرم.

 

أثارت التغطية الإعلامية التي قامت بها القناة الثانية حول معمل “الفرشي” برياض صوفيا ردود فعل متباينة بين ساكنة المنطقة والفاعلين الجمعويين. ورغم أهمية تسليط الضوء على هذه القضية البيئية، إلا أن المعالجة الإعلامية بدت محتشمة ولم تتناول جميع الجوانب التي تعكس حجم الضرر الصحي والبيئي الذي يسببه الدخان المنبعث من المصنع. اكتفت القناة بإدلاء مسؤول بالمصنع بتصريح يخفي فيه وجهه، مبرراً وجود الوحدة الصناعية بكونها سابقة على مشروع التهيئة، بينما اعتبر رئيس الجماعة أن المشكل يعود لأكثر من عشر سنوات وأن المصنع يشغل أبناء المنطقة، في محاولة لتبرير استمرار نشاطه وسط التجمعات السكنية.لقد كان هذا الملف محور ترافع طويل قادته جمعيات المجتمع المدني التي قدمت شكايات متتالية للجهات المختصة دون أن تجد آذاناً صاغية. وبعد بحث معمق في الملفات السابقة، تبين أن جميع التحركات التي قام بها المجتمع المدني، سواء قبل ظهور هذا الائتلاف أو بعده، كانت تصطدم بجدار من اللامبالاة والتجاهل. ومع ذلك، استمر الضغط الشعبي والإعلامي، حيث كان آخر خطوات الترافع تغطية صحيفة “الصباح” للقضية، وهو ما دفع حزب التقدم والاشتراكية إلى طرح تساؤل في الموضوع داخل قبة البرلمان، في خطوة سلطت الضوء على هذه الكارثة البيئية التي تطارد ساكنة ليساسفة منذ سنوات.ورغم هذا الزخم الترافعي، لا يزال هناك من يحاول طمس الحقيقة والتقليل من حجم الخطر، مستغلين تقارير تفصيلية عن جودة الهواء صادرة عن مختبر تابع لصاحب المصنع، تؤكد أن الدخان غير مضر بالصحة، وهو أمر يناقض الواقع اليومي للساكنة التي تعاني من أمراض تنفسية مزمنة مثل الربو، إضافة إلى التأثيرات البيئية السلبية على المحيط العام. الصور والشهادات التي تم توثيقها على مدى الأشهر الماضية تؤكد أن الوضع البيئي كارثي، وأن استمرار المصنع في موقعه الحالي يشكل انتهاكاً صارخاً للحق في بيئة سليمة، وهو حق يكفله الدستور والمواثيق الدولية التي صادقت عليها المملكة المغربية.

 

ائتلاف المجتمع المدني للترافع عن الشأن المحلي الذي تقوده الفاعلة الجمعوية زهور، يرفض أن يكون هذا الملف طي النسيان أو أن يُطوى بحلول ترقيعية لا تعالج أصل المشكلة. ومن هذا المنطلق، أعلن الائتلاف عزمه رفع دعوى قضائية ضد الجهات المسؤولة، للمطالبة بإجراء خبرة مضادة لتحليل جودة الهواء، وإجبار المصنع على الإدلاء بجميع الوثائق القانونية التي تسمح له بمزاولة نشاطه في هذه المنطقة السكنية كما سيتم تسطير خطوات تصعيدية أخرى في حال استمرار تجاهل مطالب الساكنة، من بينها تنظيم وقفات احتجاجية، والتواصل مع منظمات بيئية دولية لدعم الملف مع دعوة باقي الفاعلين الحقوقيين والجمعويين للانضمام إلى هذا الحراك المشروع.لا يمكن تبرير الضرر البيئي بحجج واهية مثل أن المصنع يشغل عدداً من أبناء المنطقة، أو أنه سبق مشروع التهيئة، لأن الأولوية في أي تخطيط عمراني هي صحة الإنسان وسلامة البيئة. لذلك، يظل مطلب نقل الوحدة الصناعية إلى منطقة خارج النسيج السكني مطلباً مشروعاً لا يمكن التراجع عنه. الساكنة لن تقبل أن يُفرض عليها العيش تحت رحمة الانبعاثات السامة، والمجتمع المدني لن يتوقف عن النضال حتى تتحقق العدالة البيئية للجميع.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!