ولا تيأسوا من روح الله… رحلة كتابِ حبيل رشيد من صمت الكلمات إلى مقام النجوم واعتلاء 2400 قارئ

علاش بريس
يقول الروائي البرازيلي باولو كويلو:
“الكتابة فعلُ نجاة… والقراءة فعلُ تحوّل. وبينهما يولد المعنى الذي ينقذ الإنسان من نفسه قبل أن ينقذه من العالم.”
لم يكن خبرُ حصول كتابي ولا تيأسوا من روح الله على خمس نجوم في مكتبة كتوباتي مجرّد إشعارٍ صغير يلمع في شاشة هاتفي؛ بل كان حدثًا داخليًا كاملًا، رجّة هادئة تشبه وضع يدٍ رحيمة على كتفٍ أنهكته الطريق. شعرتُ أنّ شيئًا ما كان ينتظر هذه اللحظة، كأن الكتاب نفسه كان يتطلّع إليها منذ أن خرج من بين يدي، يبحث عن قارئ، وعن قلب، وعن معنى يمنحه الحياة التي يستحقها. واليوم وقد تجاوز عدد القرّاء أكثر من 2400 قارئ، صار الأمر أكبر من مجرد رقم؛ إنه شهادة على أن الكلمة حين تُكتب بصدق تصل، وأن الحرف حين يخرج من القلب يعرف طريقه إلى القلوب الأخرى.
حين بدأت كتابة هذا الكتاب، لم أكن أبحث عن إنجاز أدبي، ولا عن مشروع كبير يضاف إلى قائمة أعمالي. كنت أكتب بصفاء إنسانٍ يقف أمام نفسه، يحاول أن يرمّم شروخها، وأن يمنحها جرعة أمل في لحظة كانت تبدو معتمة. كان الكتاب أقرب إلى محاولة للنجاة: نجاة من اليأس، ومن الضيق، ومن تلك اللحظات التي يظنّ فيها الإنسان أنه عالق في نقطة لا خروج منها. وفي كل مرة كتبت فيها سطرًا، كنت أشعر أن الكلمات تأتي وحدها دون استئذان، كأنها ميراث روحي قديم خرج من أعماقي ليدوّن نفسه دون أن أطلب.
لقد اكتشفتُ عبر التجربة أن الكتب التي تُكتب من الداخل، لا من أجل التزيين أو الاستعراض، تملك قدرة خارقة على السفر. تسير وحدها، بقدمين لا نراها، وببوصلة خفية تقودها إلى الأشخاص الذين يحتاجون إليها في اللحظة المناسبة. وهذا ما حدث مع ولا تيأسوا من روح الله؛ فقد غادرني النصّ وصار له مصير خاص، كأنه كائن مستقل، يختار قراءه واحدًا واحدًا، ويجلس معهم في صمت، ويقول لهم ما لم أستطع قوله بصوت مرتفع.
أما حصوله على خمس نجوم، فهو في جوهره ليس تكريمًا لي، بل تكريمٌ لتلك اللحظة التي كتبت فيها بصدق، دون تردد، ودون محاولة لإرضاء أحد. تكريمٌ للضعف الإنساني الذي يعترف به المرء أمام نفسه، فينفتح له باب الأمل. تكريمٌ للتجربة التي جعلتني أكتب، وللألم الذي تعلّمت منه، وللنور الذي أشرق بعدها. لقد تعلّمت أن الجرح حين يُكتب يتحول إلى نافذة، وأن الوجع حين يُصاغ في جملة يصبح بلسما لغيرك دون أن تدري.
إن وصول الكتاب إلى هذا العدد من القراء لا يعني انتشارًا فحسب، بل يعني أن الأرواح تواصلت. كل قارئ من هؤلاء كان حكاية كاملة، كان عقلًا يتأمل، وقلبًا يبحث عن عزاء، ونفسًا تحاول أن تجد طريقها في متاهات الحياة. ولعلّ أجمل ما في القراءة أنها ليست علاقة من طرف واحد؛ القارئ لا يكتفي بتلقّي النص، بل يعيد تشكيله، يعيد فهمه، يملأ فراغاته من تجربته، ويضيف إليه من روحه. وهكذا يصبح الكتاب حيًا حقًا، لأنه حينها يتجدد بعدد القراء، ويتنفس بعدد الأرواح التي مرّت عليه.
لقد قلت لنفسي مرارًا: الكتاب لا يكتمل في لحظة الكتابة، بل في لحظة القراءة. وما دامت هناك عينٌ تقرأ، وروح تتأثر، وفكر يتفاعل، فإن الكتاب يظل في حالة ولادة مستمرة. ولذلك، لم أعتبر تلك النجوم الخمس نهاية، بل بداية جديدة؛ بداية لمسؤولية أكبر، ولمسار أطول يجب أن أمشيه وأنا أعي تمامًا أن القارئ لا يمنح نجومه سدى، بل يمنحها حين يشعر بأن الحرف لامس شيئًا عميقًا فيه.
وأعترف أنني كلما رأيت عدد القراء يرتفع، شعرت بتواضعٍ أكبر تجاه الكتابة. الكتابة ليست ترفًا، وليست هواية عابرة كما يعتقد البعض. إنها فعل وجود، فعل مقاومة، فعل بحث عن معنى. وحين يضع الكاتب قلبه على الورق، فإنه يعرّي نفسه أمام قارئ لا يعرفه، لكنه يصبح أقرب إليه من الكثيرين الذين يعرفهم في الواقع. لذلك، فإن لحظة نشر كتاب ليست لحظة نهاية، بل لحظة تسليم: تسليم النص إلى القدر، وإلى القراء، وإلى المسار الذي يحدّده له الناس لا الكاتب.
إن حصول كتابي ولا تيأسوا من روح الله على هذا التقدير يمثل بالنسبة لي نقطة ضوء جديدة في رحلة طويلة مع الكتابة. رحلة بدأت منذ سنوات، ولم أزل أتعلم منها. الكتابة بالنسبة لي كانت دائمًا محاولة لترتيب الحياة، ولتفكيك الأسئلة الصعبة، وللبحث عن باب صغير يؤدي إلى الطمأنينة. وربما لهذا السبب وصل هذا الكتاب إلى كل هؤلاء القراء؛ لأننا جميعًا نتشابه، لأننا جميعًا نحمل الأسى ذاته، والرجاء ذاته، والخوف ذاته، ولأننا في النهاية نبحث عن كلمة واحدة تُطمئننا: أنك لست وحدك.
إنني أؤمن بأن الكتابة الروحية ليست خطابًا دينيًا، بل خطاب إنسانٍ يختبر الحياة بكل تناقضاتها. والكتاب لم يكن وعظًا، ولا خطابًا فوقيًا، بل كان محاولة لرسم مسار للعفو، وللصبر، وللعودة إلى الذات، وللتصالح مع أخطاء الأمس. ربما كان هذا ما جعل القراء يجدون أنفسهم بين صفحاته. ربما لأنه لم يدّعِ الكمال، بل اعترف بالضعف، والإنسان بطبعه يميل إلى النصوص التي تشبهه، لا التي تتعالَى عليه.
ولأنني أدرك اليوم ما يعنيه أن يقرأ إنسان كتابًا من كتبي، فإنني أعتبر كل قارئ شريكًا في الرحلة. كل من فتح الصفحة الأولى صار جزءًا من هذه التجربة. وكل من أنهى الكتاب صار شاهدًا على أن الكلمة حين تكون صافية تستطيع أن تغير شيئًا صغيرًا في الداخل، وهذا التغيير الصغير هو بداية كل تغيير كبير.
وفي وسط كل هذا الامتنان، أجدني أعود إلى تلك القولة الافتتاحية:
“الكتابة فعل نجاة… والقراءة فعل تحوّل.”
وقد صدق صاحبها. كانت الكتابة نجاتي… وكانت القراءة تحوّلكم أنتم.
وبين النجاة والتحوّل، وُلد هذا الكتاب من جديد، لا في لحظة نشره، بل في لحظة قراءتكم له.
وهكذا يمكنني أن أقول اليوم، بيقينٍ لا لبس فيه:
إن ولا تيأسوا من روح الله لم يعد كتابًا لي وحدي، بل صار كتابًا لكل من قرأه، ولكل من احتاج إليه، ولكل من رأى في صفحاته مرآةً لظله، أو عزاءً لجرحه، أو طريقًا صغيرًا يوصله إلى سلامٍ كان يبحث عنه منذ زمن.
وما دامت هناك روحٌ لا تيأس… فالكلمة ستظل تجد طريقها.












