
مع تسارع إيقاعات الحياة وسيطرة التقنيات الحديثة على التفاصيل اليومية، تغيرت علاقة الإنسان بالكتاب حتى أصبح العزوف عن القراءة ظاهرة مقلقة تشغل بال المفكرين والمربين فقد انشغل الناس عن مطالعة الكتب واستُبدلت صفحات الفكر العميق بتغريدات عابرة تفتقر للمعنى والعمق وتراكمت المعارف السطحية لتشكل نوعاً من الجهل المركب ذلك الجهل الذي يجعل صاحبه يظن نفسه عالماً بينما يبتعد أكثر عن جوهر المعرفة والحقيقة وفي مناخ كهذا يزداد المشهد سوداوية حين تصادفنا صور الكتب الملقاة في القمامة ويعلو التساؤل في النفوس هل فقد المجتمع الإحساس بقداسة المعرفة وأين ذهب شغف الأجيال القديمة بالقراءة ذلك الشغف الذي أنجب عظماء وصنع حضارات مؤسف أن يتحول الكتاب من نافذة مفتوحة لعقول الدنيا إلى عبء يهمل ويطرح بلا اكتراث
وسط هذه الوقائع تقف “سويقة البحيرة” في المدينة القديمة بالدار البيضاء كحارس أصيل لذاكرة أجيال ومعقل للمعرفة الشعبية ففي الأسواق الضيقة تلتقي قصص البحث عن الكتب النادرة بهموم العيش اليومي وتجاور رائحة الورق العتيق أصوات الكتبيين وحنين كل من مر يوماً يفتش بين البسطات على بقايا تراث أو فكرة جديدة هي هنا أشبه بقلعة للمقاومة الثقافية في وجه الزحف التقني وانسحاب القراءة من حياة الناس وبهذا تغدو البحيرة ليست مجرد سوق بل فضاء يعيد للكتاب هيبته ويوفر متنفساً حقيقياً لمن لا يملك القدرة على اقتناء الكتب غالية الثمن
لكن وقع الأزمات يزداد حدة مع مشاريع إعادة الهيكلة وإشارات الهدم والإخلاء التي أقلقت الكتبيين والقراء، في ذات الوقت تتداول المنصات صوراً صادمة للكتب الملقاة بين النفايات مشهد يلخص حجم الأزمة ويعكس تآكل تقدير المجتمع للمعرفة مقابل استفحال الجهل المركب وانسحاب النقد والفهم الحقيقي رويداً رويداً من العقول والوجدان هنا يصبح رمي الكتب في القمامة رمزاً لفقدان البوصلة الحضارية وتراجع الوعي المجتمعي
ومع كل ذلك تبقى الحاجة ملحة لإحياء عادة القراءة في البيوت ونشر الوعي الجماعي بقيمة الكتاب والتحذير من تحول العزوف عن المطالعة إلى تآكل داخلي لجسم المجتمع فما لم نبعث في نفوسنا ونفوس أبنائنا تقديس الكتاب ونعيد النظر في علاقتنا بالمعرفة وفضاءات تداولها مثل البحيرة سنمضي نحو مستقبل هش لا تقوم له قائمة يظل الإنقاذ مرهوناً بالفعل الجماعي بالتمسك بالفضاءات الثقافية وبإيمان حقيقي بأن بناء جيل منيع ضد الجهل هو الطريق الوحيد لصيانة هوية الأمة وسط متغيرات الزمن