الجزائر بين صراعات النفوذ والأمن: داخليًا على مفترق طرق الاستقرار والسياسة
توقيف مستشاري الرئاسة وكواليس الصراع بين الأجهزة العسكرية والأمنية وتأثيره على مستقبل النظام السياسي

تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة حالة من التوتر والتصعيد داخل أروقة السلطة، تعكس صراعات عميقة بين أجنحة مختلفة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية، حيث برز توقيف المستشارين الرئاسيين كمال سيدهم السعيد وعميروش حمداش كعلامة على حجم الصراعات القائمة وحجم النفوذ الذي تتنافس عليه هذه الأجنحة. فقد أُبلغ هذان المستشاران، اللذان كانا مقربين من رئاسة الجمهورية، بمنعهما من مغادرة البلاد على خلفية تحقيقات أمنية تتعلق بتسريبات معلومات حساسة ومحاولات اختراق مؤسسات الدولة من داخلها، في ظل أجواء ما يُمكن وصفها بصراع نفوذ داخلي حاد بين مختلف الأجنحة الأمنية التي تسعى لتعزيز سيطرتها وتأمين مصالحها داخل هيكل السلطة
لا تقتصر هذه التوترات فقط على المناكفات السياسية بل هي انعكاس لصراعات متجذرة بين أجهزة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية والعسكرية التي تنافس من أجل السيطرة على مراكز القرار والاستئثار بالنفوذ، ويُظهر المشهد أن تلك الصراعات ليست جديدة وإنما تاريخها ممتد من أيام الثورة التحريرية التي شهدت تقسيم الجزائر إلى مناطق عسكرية منظمة، مرورًا بالانقلابات العسكرية وما أعقبها من انقسامات داخل مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، وكل ذلك جعل أجهزة الدولة تواجه أزمة داخلية عميقة تتسع لتشمل مصالح اقتصادية وسياسية متشابكة دون أن يكون هناك تحكم مؤسسي واضح يسمح بحل هذه الخلافات بشكل سلمي ومنظم
الجيش والشرطة بدورهما يلعبان أدوارًا حرجة في هذه الأزمة، فالجيش يمارس نفوذاً واسعاً لا يقتصر على الجانب العسكري بل يتعداه إلى إدارة السياسة والاقتصاد والمجتمع، ما يجعله قوة لا يمكن إغفالها في أي تسوية أو توازن سياسي، في حين أن الشرطة تمثل أداة رئيسية للحفاظ على النظام الداخلي من خلال فرض الأمن وحماية مؤسسات الدولة، لكنها ضمن هذه الأجواء تصبح جزءًا من الصراع عبر دورها في قمع الاحتجاجات وتأمين المصالح السياسية، وهذا التداخل في الأدوار يعكس عدم وضوح الفصل بين المهام العسكرية والمدنية ويزيد من تعقيد المشهد
أما جهاز الاستخبارات في الجزائر فيتمتع بنفوذ استثنائي داخل السلطة السياسية، حيث يُعتبر الذراع السرية التي تؤثر في صنع القرار وتوجهات الحكم، فمهمة جمع المعلومات وتحليلها لا تقتصر فقط على الأمن القومي بل تتعداها إلى مراقبة النشاطات السياسية، احتواء الخصوم، فرض السيطرة على المعارضين، ما يجعلها قوة أساسية في إعادة تشكيل خارطة السلطة. هذا النفوذ الكبير يعكس مكانة الاستخبارات كأحد الأعمدة الأساسية للنظام الجزائري، لكن داخليًا يعاني الجهاز من صراعات نفوذ بين أفرعه المختلفة، ويشهد بين الحين والآخر تغييرات في قيادته استجابةً للصراعات السياسية القائمة
ويتضح أن هذه النزاعات على النفوذ بين المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية من جهة والسلطة السياسية المدنية من جهة أخرى، تمثل جوهر الكثير من الأزمات التي تواجه الجزائر، فالمؤسسة العسكرية التي ترى في نفسها وصية على الدولة والضامن لاستقرارها تسعى للحفاظ على نفوذها وتأثيرها في الحياة السياسية، بينما تحاول القيادة المدنية بناء سلطة مركزية تسيطر على كل مفاصل الدولة، وهو صراع يتداخل فيه التنافس على المناصب والموارد الاقتصادية والقدرة على صنع القرار، ويعكس اختلاف الرؤى بين العسكريين الذين يرون دورهم يتجاوز حدود الدفاع الوطني إلى التحكم في النظام، والمدنيين الذين يطالبون بحدود واضحة للدور العسكري وإعادة هيكلة السلطة
إن ما تواجهه الجزائر من صراعات نفوذ تشكل تحديًا حقيقيًا لاستقرار الدولة، حيث تؤدي هذه الصراعات إلى إضعاف التنسيق بين مؤسسات الدولة وتزيد من هشاشة النظام السياسي وتجعل الإدارة الفعالة للأمن والاقتصاد أقل قدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كما تفتح الباب أمام تدخلات خارجية ومحاولات اختراق، وتضعف كذلك قدرة الجزائر على لعب أدوار إقليمية فاعلة في منطقة تشهد توترات مستمرة. هذا الواقع يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في هيكلة العلاقات بين الجيش والأجهزة الأمنية والسلطة المدنية، لإيجاد توازن مستدام ينبني على احترام القانون والحوكمة السليمة، ما يضمن أمن البلاد واستقرارها وتماسك مؤسساتها في وجه أي تهديد أو أزمة مستقبلية.
وفي الختام، تعكس الصراعات الداخلية بين القوى الأمنية والعسكرية والسياسية تحديات جوهرية تعيشها الجزائر، تعبر عن ظاهرة أعمق تتعلق بكيفية إدارة السلطة وتقاسم النفوذ داخل الدولة، ومن هنا تبرز أهمية تفعيل حوار وطني شامل يهدف إلى تجاوز هذه الخلافات وتنظيم دور كل مؤسسة في إطار دستوري يضمن مشاركة حقيقية تستند إلى مبدأ التوازن والمساءلة، ليتمكن البلد من أن يخطو بخطى ثابتة نحو استقرار داخلي وتنمية مستدامة تواكب تحديات العصر وتلبي تطلعات شعبه.