المركز المغربي للدراسات والأبحاث في حقوق الإنسان والإعلام يخلّد الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء بندوة علمية حول “الصحراء المغربية والحكم الذاتي من التدبير إلى التغيير”

رشيد حبيل
في مساءٍ مهيبٍ مشبعٍ بنفحات التاريخ ورائحة الجنوب، التأم ثلّة من الباحثين والأساتذة والمهتمين بالفكر والسياسة في قاعة مركز المواكبة والتأطير في البحث العلمي بالصخور السوداء، يوم السبت الثامن من نونبر سنة 2025، تخليدًا للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفّرة، ضمن ندوةٍ علمية نظمها المركز المغربي للدراسات والأبحاث في حقوق الإنسان والإعلام بشراكة مع الفضاء الوطني للسياسات العمومية، حملت عنوانًا دالًّا وعميقًا: “الصحراء المغربية والحكم الذاتي: من التدبير إلى التغيير”.
كان اللقاء لحظة فكرية نابضة بالوطنية، تجدد فيها نبض الذاكرة الجماعية التي صنعت من المسيرة الخضراء أكثر من حدثٍ سياسي؛ صنعت منها ملحمة وعيٍ، ودرسًا خالدًا في عبقرية الشعب المغربي ووفائه لعرشه ووطنه. فالكلمة في هذا اليوم لم تكن للحنين فقط، بل للفكر والتحليل والرؤية. كانت محاولة لاستقراء التحول الذي عرفه النموذج المغربي في تعاطيه مع قضية الصحراء، من تدبيرٍ تقليديٍّ قائم على المركزية، إلى أفقٍ متقدّم يفتح المجال أمام الحكم الذاتي كخيارٍ استراتيجيٍّ متوازن بين السيادة والوحدة والتنمية والديمقراطية المحلية.
افتُتحت الجلسة بكلمةٍ للدكتور علي كريمي، رئيس المركز، ومُسَيِّر الندوة، حيث عبّر عن عمق المناسبة ودلالتها التاريخية والرمزية، مبرزًا أن تخليد المسيرة الخضراء في زمنٍ عالميٍّ متحوّلٍ ليس فقط تذكيرًا بالماضي، بل تجديدٌ للعهد على قيم المواطنة والسيادة والتلاحم. وأوضح كريمي أن مشروع الحكم الذاتي في أقاليمنا الجنوبية يمثل اليوم التجسيد الواقعي لروح المسيرة، لأنه يترجم إرادة الدولة المغربية في تمكين الإنسان الصحراوي من تقرير مصيره في ظل السيادة الوطنية، على أساس التنمية والكرامة والاختيار الديمقراطي.
ثم تناول الكلمة الدكتور حسن خطابي، أستاذ القانون ومحامٍ بهيئة الدار البيضاء، الذي أضاء مداخلةً علميةً دقيقة حول تطور فكرة الحكم الذاتي في الفقه الدستوري والسياسي، معتبرًا أن المغرب بنى رؤيته للحكم الذاتي على أسس قانونية ودستورية راسخة، تجمع بين احترام الهوية الوطنية وتفعيل مبدأ التفريع في توزيع السلط الترابية. وأشار إلى أن التجربة المغربية تميّزت عن غيرها في كونها ليست تنازلاً بل ابتكارًا سياسيًا يعكس نضج الدولة ووثوقها بذاتها.
أما الدكتور رشيد مقتدر، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية ومنسق ماستر القانون الدستوري بجامعة الحسن الثاني عين الشق، فقد تناول في عرضه التحليلي مسار التحوّل من التدبير إلى التغيير في مقاربة ملف الصحراء. وبيّن أن التحول ليس مجرد شعار بل تحوّل في الفلسفة الحاكمة للتدبير الترابي، إذ لم يعد الهدف إدارة الوضع القائم، بل إرساء نموذج تنموي متكامل يربط بين الحكم الذاتي والحكامة الجيدة، ويجعل من الأقاليم الجنوبية فضاءً للريادة في التنمية، ومختبرًا لتطبيق الجهوية المتقدمة في أبهى صورها.
ومن جانبه، قدّم الدكتور محمد أبوالقاسم، الباحث وعضو المكتب التنفيذي للمركز، قراءةً في دور الإعلام في تثبيت الوعي الوطني بقضية الصحراء، مؤكّدًا أن الإعلام ليس مجرد ناقلٍ للخبر، بل شريك في بناء الرأي العام، وأن الدفاع عن الوحدة الترابية يحتاج إلى خطابٍ إعلاميٍّ مؤسَّسٍ على المعرفة لا الانفعال، وعلى التنوير لا التهييج، مع ضرورة توظيف الوسائط الرقمية الجديدة في ترسيخ صورة المغرب كدولةٍ مسؤولةٍ تنشد الحلول السلمية.
ثم جاءت مداخلة الدكتور حميد نعيمي، رئيس الفضاء الوطني للسياسات العمومية، الذي رسم بخطابٍ تحليليٍّ دقيق خريطة التحديات الراهنة في تنزيل نموذج الحكم الذاتي، مؤكّدًا أن المشروع المغربي بات يحظى بتأييدٍ متزايدٍ في الساحة الدولية، بفضل مصداقيته وانسجامه مع مقاصد الأمم المتحدة. وأوضح أن التحول المطلوب اليوم لا يقتصر على الجانب الإداري، بل يمتد إلى بناء نخبٍ محليةٍ مؤهلةٍ قادرة على ممارسة الحكم الذاتي بروح المسؤولية والاستبصار، بعيدًا عن أي نزعاتٍ جهويةٍ ضيقة.
أما الأستاذ خالد هلال، المحامي بهيئة الدار البيضاء، فقد قدّم رؤيةً قانونيةً واقعيةً تناولت الأبعاد الحقوقية للمقترح المغربي، مشيرًا إلى أن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية ليس خيارًا تكتيكيًا بل مشروعًا استراتيجيًا متكاملًا يعكس إرادة الدولة في استيعاب التحولات الإقليمية، وتحصين المكتسبات الوطنية من أي عبثٍ سياسيٍّ أو دبلوماسيٍّ خارجي. واعتبر أن نجاح المغرب في إدارة هذا الملف بمرونةٍ وصرامةٍ في آنٍ واحد، دليلٌ على نضج تجربته السياسية وقدرته على تحويل التحدي إلى فرصة.
الندوة التي عرفت حضورًا نخبويًا لافتًا من أكاديميين وإعلاميين وفاعلين في المجتمع المدني، تحوّلت إلى منبرٍ للحوار العلمي الرصين، حيث تداخلت الرؤى القانونية والسياسية والإعلامية في نسيجٍ فكريٍّ متكاملٍ، يُبرز أن قضية الصحراء المغربية ليست قضية ترابٍ فحسب، بل قضية هويةٍ ومستقبلٍ ونموذجٍ حضاريٍّ في الحكم الرشيد. وقد خلص المتدخلون إلى أن الانتقال من التدبير إلى التغيير يقتضي تحرير المفهوم من القوالب الإدارية نحو أفقٍ تنمويٍّ شامل، يجعل من الإنسان محورًا ومن الكرامة غايةً ومن المواطنة وسيلةً.
وما ميّز هذه الندوة، أكثر من غيرها، هو ذاك الحسّ الوحدويّ الذي خيّم على القاعة، حيث لم يكن الحديث عن الصحراء حديثًا أكاديميًا باردًا، بل كان نبضًا مغربيًا صادقًا، امتزج فيه العلم بالعاطفة، والمنطق بالوجدان. فالخمسون عامًا التي تفصل بين المسيرة الخضراء واليوم، لم تزد هذا الوطن إلا رسوخًا في يقينه بعدالة قضيته، وثقةً في مشروعه الإصلاحي الكبير.
واختُتمت الندوة بكلماتٍ تعبّر عن الأمل في أن تواصل النخبة الأكاديمية المغربية أداء دورها في تحصين الوعي الوطني، وترسيخ قناعة الأجيال الجديدة بأن الوحدة الترابية ليست شعارًا يُرفع، بل مسؤولية فكرية وثقافية وأخلاقية. وقد حيّى المشاركون القائمين على المبادرة لما قدموه من نموذجٍ في العمل الأكاديمي المواكب للتحولات الوطنية، مؤكدين أن البحث العلمي هو السلاح الأرقى في معارك الوعي والسيادة.
إن تخليد المركز المغربي للدراسات والأبحاث في حقوق الإنسان والإعلام لهذه الذكرى لم يكن مجرّد نشاطٍ احتفاليٍّ أو بروتوكولي، بل فعل وفاءٍ معرفيٍّ لروح المسيرة، وتجديدٌ للعهد مع التاريخ. لقد أثبتت الندوة أن المغرب لا يكتفي بسرد الماضي، بل يصنع المستقبل بمعرفةٍ رصينةٍ، وبإرادةٍ لا تنكسر، وبإيمانٍ عميقٍ بأن الصحراء ليست قضية جغرافيا، بل قضية وجودٍ وهويةٍ ومصيرٍ مشترك.
بهذا اللقاء، بدا واضحًا أن الذاكرة الوطنية حين تُنار بالعلم تتحوّل إلى مشروعٍ مستقبليٍّ متجدد، وأن المسيرة الخضراء التي انطلقت سنة 1975 لم تتوقف بعد، بل ما تزال تسير في العقول والقلوب، تفتح الدروب وتكتب الفصول الجديدة من قصة وطنٍ اسمه المغرب، لا يعرف إلا الثبات والضياء.













