قصة “خيانة” للكاتب رشيد المنجري… حين تتحول الشراكة الزوجية إلى ساحة للاهتزاز الصامت

رشيد حبيل
يقدّم رشيد المنجري في مجموعته القصصية “خيانة” عملاً يذهب أبعد من الحكي المباشر نحو تفجير الأسئلة العميقة حول ما يسميه بالخيانة النوعية. ليست الخيانة هنا مجرد انزلاق عاطفي أو هفوة لحظة، بل حدث يضرب في قلب المؤسسة الزوجية، ويعيد ترتيب كل ما يُفترض أنه ثابت، بدءاً من معنى الثقة وصولاً إلى مفهوم الأمان داخل البيت. يكتب المنجري من منطقة حساسة في التجربة البشرية، تلك التي تتعلق بانهيار الركائز التي على أساسها يُبنى الزواج. فالعلاقة التي يفترض أن تقوم على المشاركة وتحمل المسؤولية المشتركة، تتحول فجأة إلى فراغ ممتد، وإلى شرخ لا يُرى لكنه قادر على هدم بيت مهما بدا متيناً من الخارج.
ما يميز تناول المنجري هو تركيزه على السياق الاجتماعي الذي تضخمت فيه مسببات الخيانة وتعددت أشكالها. فوسائل التواصل لم تعد مجرد أدوات للتعارف أو تبادل الرسائل، بل فضاءات مفتوحة تعيد ترتيب العلاقات بطريقة غير طبيعية، وتُدخل إلى البيوت أثقالاً لم تكن حاضرة في الماضي. في مجتمع محافظ كانت فيه العلاقات محدودة ومراقبة بشكل طبيعي، تبدو الانفجارات الحالية نتاجاً لتحولات سريعة لم تمنح الأفراد الوقت الكافي للتأقلم معها أو فهم آلياتها. غير أن الكاتب، رغم هذا الوعي، لا يسقط في تبرير السلوك أو شرعنته. فهو يعلن منذ البداية أن الخيانة لا مبرر لها، ولا يمكن لأي ظرف أن يرفع عنها صفة الغدر. وكل ما يمكن فعله هو محاولة الفهم، لا من أجل تبرئة أحد، بل من أجل قراءة هشاشتنا البشرية كما هي.
ينطلق النص من فكرة بسيطة لكنها شديدة العمق: الاستقرار الزوجي ليس وضعاً نهائياً، بل توازن هش تحكمه اختيارات صغيرة، وتغذيه عادات بسيطة، وقد يُهدم بسبب فعل واحد أو كلمة واحدة أو علاقة هامشية لا معنى لها في بدايتها. الخيانة بهذا المعنى حدث يفتح الباب أمام انهيار رمزي يسبق الانهيار العملي. فقبل أن ينكسر البيت، تنكسر الثقة. وقبل أن يتصدع العيش المشترك، يتصدع الشعور بالأمان. هنا يكمن جوهر الخيانة النوعية التي يتناولها المنجري: فعل ينسف الأساس قبل السطح، ويهدم الداخل قبل الخارج.
يشتغل الكاتب على مستويات متعددة: مستوى نفسي يلتقط التردد والقلق والخوف من المواجهة، ومستوى اجتماعي يصف اضطراب القيم في زمن السرعة والاتصال الدائم، ومستوى سردي يمنح لكل قصة مساحة لاستنطاق التفاصيل الصغيرة التي تصنع الكارثة. لا يقدم دروساً جاهزة، ولا يمارس وعظاً مباشراً، بل يكتب الحكاية كمرآة تُظهر ما لا يريد الناس رؤيته: هشاشتهم، وازدواجيتهم، ونزاعاتهم الخفية. ومن خلال هذه الحكايات، يكشف جانباً صامتاً من العلاقات، ذلك الجانب الذي ينهار غالباً قبل أن يشعر به الطرف الآخر.
يعتمد المنجري أسلوباً حجاجياً رصيناً يقوم على بناء منطق داخلي يسمح للقارئ بمتابعة تشكل الخيانة في سياقها الطبيعي، بعيداً عن المبالغات الدرامية أو الأحكام الجاهزة. فالقصة لا تُقدّم باعتبارها أدب فضائح، بل كأداة لفهم كيف يصل زوجان، كانا على قدر من التفاهم، إلى نقطة اللاعودة. وكيف يتحول الشك الصغير إلى جرح كبير، وكيف تفتح الرسائل السرية والأحاديث العابرة أبواباً لا يمكن إغلاقها. كل ذلك يكتب بروح صحافية محكمة، تعتمد التحليل وربط الظاهرة بتحول المجتمع.
وفي عمق النص، تظهر تلك المفارقة التي يريد الكاتب تثبيتها: نحن نعيش في زمن يتيح للناس التواصل أكثر من أي وقت مضى، لكن هذا الاتصال لم ينتج دفئاً ولا قرباً، بل زاد المسافات داخل البيت نفسه. النافذة المفتوحة على العالم تحولت إلى نافذة تهب منها رياح تهدد الاستقرار العائلي. لم يعد الخطر يأتي من الخارج بمعناه التقليدي، بل من جهاز صغير يحمله كل فرد في جيبه. هذا التحول البنيوي هو ما يجعل الخيانة اليوم أكثر تعقيداً، لأنها لا تُقاس فقط بالفعل المادي، بل بالتواصل الذي يسبق الفعل ويصنع مناخاً موازياً للحياة الزوجية.
ورغم أن المنجري يرفض الدخول في تفاصيل التبرير أو شرح الأسباب، إلا أن نصوصه تقدم صورة بانورامية تراكمية عن طبيعة الأزمات التي يعيشها الأزواج في هذا الزمن. فهناك ضغط اجتماعي، واحتياجات نفسية مكبوتة، وتوقعات مثالية من الطرفين، وصراعات حول الأدوار، وتراجع في مهارات التواصل. كل هذه العناصر تشكل خلفية تجعل الخيانة عرضاً أكثر منها سبباً. عرضاً لخلل أعمق، لفراغ أوسع، لانقطاع في الحوار، ولغياب في التقدير المتبادل.
لكن إضافة إلى التحليل، يترك الكاتب مساحة للتأمل الأخلاقي. فالقارئ، بعد رحلة القصص، يجد نفسه أمام سؤال واحد لا يملك الهرب منه: هل يكفي أن نبني بيتاً من جدران قوية دون أن نبني ثقة بنفس القوة؟ وهل يمكن للعلاقة أن تستمر اعتماداً على العادة فقط دون حضور يقظة داخلية تحميها من الانهيار؟ بهذا المعنى، يصبح الكتاب دعوة غير مباشرة لإعادة التفكير في أساسيات العلاقة الزوجية، وليس في أعراضها.
قصة “خيانة” ليست مجموعة قصصية فحسب، بل وثيقة اجتماعية عن زمن يقف على مفترق طرق بين قيمه القديمة وتحدياته الجديدة. ومن خلال لغة بسيطة لكنها محكمة، ومسار سردي قائم على التفكيك وإعادة التركيب، يقدم رشيد المنجري عملاً ينبه إلى أن الخيانة ليست مجرد حادث يُنسى، بل ناقوس خطر يكشف هشاشة العلاقة ويستدعي مراجعة شاملة. ولعل قوة الكتاب أنه لا يقدّم رسائل جاهزة، بل يترك القارئ في مواجهة أسئلته، في مساحة تأملية لا تهرب من الحقيقة: البيوت لا تسقط فجأة، بل تبدأ بالاهتزاز من داخلها، حيث لا يراها أحد.












