
بمناسبة موسم مولاي عبد الله والمواسم التقليدية التي أقيمت مؤخراً في عدة مناطق مغربية، تتعالى بعض الأصوات من مختلف مدن جهة بنسليمان وضواحيها، وخاصة من المحمدية والدار البيضاء والرباط، متسائلة عن موعد إقامة موسم سيدي امحمد بن سليمان، الذي يرتبط بزيارة ضريح الولي الصالح ويُعتبر مناسبة دينية وثقافية واجتماعية مهمة. ويُعرف أن تنظيم موسم سيدي امحمد بن سليمان يتم عادة خلال الأسبوع الأول من شهر غشت، وهو موعد لازال ينتظره الجمهور للاستمتاع بعروض التبوريدة والفعاليات المصاحبة.
وفي قلب التراث المغربي العريق ينبض موسم سيدي امحمد بن سليمان كحدث ديني، ثقافي واجتماعي بارز في إقليم بنسليمان، حيث يرتبط هذا الموسم السنوي بزيارة ضريح الولي الصالح سيدي امحمد بن سليمان الذي يحمل مكانة روحية وأهميّة تاريخية كبيرة في الوعي الجمعي للمغاربة. يعود تاريخ هذه المناسبة إلى أواخر القرن العاشر الهجري، حيث كان سيدي امحمد بن سليمان رجل دين وعالم تميز بكراماته ما جعله أحد أولياء الله الصالحين الذين يبرك بهم الناس ويحتفلون بذكراهم كل عام. فقد أمر السلطان مولاي إسماعيل بتشييد ضريحه إحياءً لذكراه وربط هذه المناسبة بالدين والسلطة السياسية في آن واحد مما زاد من اهميتها وأثرها الاجتماعي داخل المنطقة.
تتميز فعاليات الموسم بتنوعها وبروز عروض التبوريدة التي تشكل ركيزة أساسية من البرنامج، حيث تقدم فرق الفروسية استعراضات مبهرة تجمع بين ركوب الخيل بإتقان وإطلاق البارود في مشاهد تجسد الأصالة والفرسانية المغربية بأبهى صورها.
هذا الفن التقليدي ليس فقط تقليداً فنياً فقط بل هو رابط ثقافي يعكس الهوية المغربية وعلاقتها العميقة مع الماضي والجغرافيا المحلية. كما أن الفعاليات المصاحبة تشمل جلسات دينية وثقافية تحيي الدعاء والذكر بالإضافة إلى السهرات والمهرجانات الفنية التي تملأ أجواء اللقاء بالطابع الشعبي والتراثي.
تمتد الأدوار الاجتماعية للموسم إلى تعزيز أواصر التلاحم بين سكان المنطقة ومختلف القبائل والعائلات المحلية، حيث يشكل الموسم ملتقى للقاء والتواصل يعزز روح التضامن والتكافل ويحتضن فعاليات تراعي التعليم العتيق والتمسك بالقيم والأخلاق المستمدة من التراث المغربي الإسلامي.
بالإضافة إلى أن الموسم يضطلع بدور اقتصادي هام إذ يشكل فرصة للمجتمع المحلي لتسويق الحرف اليدوية والملابس التقليدية وتوفير فرص عمل موسمية تفيد شرائح واسعة من السكان.
لا يقتصر تأثير موسم سيدي امحمد على الأبعاد المحلية بل يمتد ليشمل جذب أعداد متزايدة من السياح المحليين والأجانب الباحثين عن تجربة ثقافية أصيلة، حيث توفر عروض التبوريدة والفنون الشعبية مصدراً رئيسياً لجذب هؤلاء في قبالة مع الاحتفالات الدينية مما يعكس تناغماً بين البعد الروحي والترفيهي.
كما تسعى الجهات المنظمة إلى تطوير الموسم ليواكب متطلبات الزمان عبر تنويع برامجه من خلال إضافة مسابقات رياضية مثل سباقات الطريق ومعارض ثقافية تعزز من مكانته منصة متكاملة فنية وثقافية وسياحية.
وفي السياق الأوسع، يتداخل موسم سيدي امحمد بسلسلة من المواسم المغربية الأخرى التي تحتفي بالتبوريدة، مثل موسم مولاي عبد الله في دكالة والذي يعد من أقدم المواسم التي تعكس أبعاداً مقدسة وتجمع فرق الفروسية في عروض تنمي القيم الوطنية والروحية وتبرز روابط القبائل وجذورها التاريخية.
شهد هذا الموسم تطويرات كبرى في السنوات الأخيرة من حيث طول فترة الاحتفال وتنويع الأنشطة وأسلوب التنظيم مع تحسينات لوجستية بارزة هدفها رفع مستوى التظاهرة واستقطاب أعداد أكبر من الزوار.
ويرافق موسم مولاي عبد الله حضور كثيف من الفرسان المشاركين الذين يعرضون مهاراتهم في ركوب الخيل والقنص، كما تشمل الفعاليات الثقافية والأدبية والمحاضرات الدينية التي تثري الوعي الجماعي وتدعم التلاحم الاجتماعي، ليس هذا فحسب بل أن الموسم يشكل مهداً للاقتصاد الموسمي حيث يعزز التجارة المحلية وفرص العمل ويضخ سيولة مالية هامة في المجتمع المضيف.
أما في المناطق الصحراوية جنوب المغرب، فتبرز الفروسية التقليدية بكل خصوصياتها التي تتماشى مع البيئة والثقافة البدوية، حيث يعبر عرض التبوريدة في الصحراء عن نقاء الصحراء وروح القبائل العربية الأمازيغية من خلال استخدام تقنيات ركوب فريدة وأزياء مميزة وتحفز تقديم عروض مع إطلاق البنادق بطريقة تعكس تراثاً صحراوياً خاصاً.
كما ترتبط هذه العروض بمواسم واحتفالات قبلية تبرز عمق الفروسية في الحفاظ على الهوية الثقافية للبدو وتساهم في تنشيط السياحة الثقافية في هذه المناطق التي تعيش من خلال هذه التقاليد حياة متجددة تعكس تواصل الأجيال وخلاص التراث.
الفروسية التقليدية المغربية عامة، وبخاصة التبوريدة، ليست مجرد ممارسات عابرة بل تمثل هوية وطنية متجذرة متصلة بالبعد الديني عبر ألف عام من القيم الإسلامية التي تعتز بالخيول وقد ذكرت في القرآن الكريم باعتبارها رمزاً للقوة والجهاد، وكما جاء في الحديث الشريف عن فضل الخيل ودورها في حياة المسلم؛ هذه القيم تجسدت في مدونات أخلاقية لفروسية تاريخية تضع الشجاعة والكرم والشرف والوفاء في صلب شخصية الفارس الذي يمثل ذروة النبل والصدق.
لقد أسهم إدراج التبوريدة في قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو عام 2021 في دعم مكانة هذا الفن وحمايته دولياً، ما عزز الاهتمام بها محلياً وأكد كونها رمزاً للهوية المغربية المتصلة بتاريخها العسكري والثقافي والاجتماعي. هذا الاعتراف الدولي فتح أبواباً لتطوير السياحة الثقافية المرتبطة بالمهرجانات الموسمية التي تستقطب آلاف الزوار وتولد موارد اقتصادية مهمة تعزز النمو والتوظيف في المناطق القروية.
وقد تمكنت التبوريدة عبر تقنياتها المتقنة التي تجمع بين العرض الجماعي وتناغم الحركات مع إطلاق البنادق المحشوة بالبارود، من أن تصبح عنصراً أساسياً في صناعة التجربة السياحية المغربية، حيث تولد مشاهد طبيعية وثقافية تعد بسحر متفرد يجذب الحواس ويخلق إرثاً حياً ينضح بالحيوية على مدى المواسم والاحتفالات المختلفة تاريخياً وجغرافياً.
ومن هذا المنطلق تمثل التبوريدة ومواسمها التقليدية مؤسسة ثقافية واجتماعية واقتصادية تتداخل فيها الحكايات التاريخية والروحانية والبهجة الشعبية مع عمق الاستمرارية الحضارية، فتكون جسراً بين الماضي والحاضر تشكل من خلاله الفروسية رمزية الانتماء، الشجاعة، والتلاحم الوطني الذي يعتز به الشعب المغربي ويقدمه للعالم بوجه أصيل نابض بالحياة.