فن وثقافة

التشكيل والتراث في غياب ابستمولوجيا البحث

بقلم ذ. محمد خصيف - فنان تشكيلي وناقد

1-
جل الكتابات المعاصرة التي تناولت بالدراسة والتحليل التجربة التشكيلية الحديثة بالمغرب، وتحاول ربطها بالفنون التقليدية والتراث الفني القديم، تقتصر على إعادة سرد بعض ما جاء في كتب المؤرخين الأجانب و المغاربة على السواء، الذين لا تتجاوز نصوصهم مرحلة القراءة الوصفية لعناصر التراث ومكوناته، سواء كان تراثا أمازيغيا أم عربيا، فجاء في كتاب “المنجز التشكيلي في المغرب”: هذا التراث الذي شيدوه (المغاربة)، ظل –من دون انسلاخ- يستمد أسسه وملامحه من تربة الفنون العربية الخصبة، كما يتجسد ذلك في العمائر والأضرحة والمساجد والمنازل التقليدية ومختلف الصنائع والمشغولات الشعبية التي أبدعتها يد الصانع التقليدي المغربي من منتوجات معدنية، نحاسية وفضية، مزينة بنقوش جميلة وبديعة كالصواني والأباريق والمباخر والقماقم وصناعة التسفير، أو التجليد وتنميق الجلود وزخرفتها، وكذلك صناعة الزرابي والمنسوجات الحريرية الشفافة الملونة بألوان بهيجة، أو الموشاة بالذهب، فضلا عن الحلي والأسلحة المزخرفة والخزفيات الملونة والأدوات الخشبية المزينة والمنقوشة ببراعة نادرة…” نفس السرد الوصفي نجده لدى العديد من المستشرقين الذين كتبوا عن التراث الفني المغربي، منهم جورج مارسيه و شارل تيراس وبعض المؤلفين العرب و المغاربة أمثال عفيف بهنسي و عبد العزيز بنعبد الله وغيرهما.
تفتقد أغلب النصوص الوصفية لمنهجية الحفر فيما وراء ظاهر الصورة فيكتفي صاحبها بالحكي عن اللون والخط والتزويق…وهذا الحكي لا يساعد على الكشف عن حقيقة الشكل والرمز والتكوين وبالتالي توضيح مدى عمق المقاربة الإبداعية التي يسرت عمليات التلاقح بين القديم والجديد. فجل الكتاب يفتقدون إلى الثقافة التشكيلية/الجمالية التي تمكنهم من قراءة وتحليل ذلك التراث، وإذا توفرت لديهم هذه الثقافة، يتجاهلون توظيفها في قراءاتهم فتكون نصوصهم خالية من أي منهجية نقدية تساعد المتلقي على فهم واستيعاب مكونات الموضوع المطروح للدراسة والتحليل. فتجدهم يكتفون بذكر الزرابي والصواني والاواني والصوامع وتزاويق الاضرحة والمساجد وغير ذلك، يذكرون ما هو ظاهر ولا ينفذون لما هو مخفي و مستور، لا احد ينفذ الى أعماق “العالم المستقل” الخاص بمعالم واثار الفن الإسلامي: التنظيم الجمالي للفضاء المعماري او غيره، خطوط القوة التي توجه التنظيمات والتكوينات الهندسية التي تملأ الجدران والارضية، التكوينات ذات البعدين المغيبة للوهم بالعمق، كما لا نجد أثرا لحفر معمق في أركيولوجيا الرموز والأوشام والتركيبات ذات المرجعية الأمازيغية، وإحالتها إلى جذورها السوسيو ثقافية. فلا يتم مطلقا تناول جمالية هذه الاشياء التي ذكرتها واصولها الفنية والاستطيقية وجماليات فضاءاتها وغير ذلك.
الجميع يكتفي بكان لنا وكان عندنا… وهي مواقف غير مشرفة بل “كلها محقرة لنا ولقيمتنا تجاه أنفسنا كأفراد وكجماعات”.
كلنا نعلم ان الامة المغربية لها تراث فني غني، بتنوع حضارات الامم التي ارست سفنها على شواطئ المغرب، تراث جمالي لا تمتد جذوره التاريخية فقط “إلى الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين” كما يعتقد البعض. إنها خيانة تاريخ المغرب الثقافي والفني حينما نغيب الحديث عن حقب حضارية ما قبل إسلامية، تركت آثارها ومازالت على واقعنا المتنوع والمختلف. أطرح السؤال بمنتهى البساطة على من يتنكرون في كتاباتهم عن الفن التشكيلي المغربي لحلقة تاريخية مازالت تشكل الحاضر كما كونت الماضي وستمتد إشعاعاتها لتسد أفق المستقبل، وأقصد هنا التراث الأمازيغي الثري. ماذا كان قبل الأدارسة؟ ألم تعودنا كتب التاريخ المدرسية على أن البرابرة هم سكان المغرب الأولون؟ مع تحفظي على كلمة برابرة.
ان مكونات منظومة الحضارة المغربية متنوعة ومختلفة، منها القائم الحي ومنها الراكد المخفي/الخفي، الذي ينتظر فرصة من يبرزه ويعيد فيه الحياة.
وإن ما يميز الحضارة المغربية كونها كانت مستقلة عن حضارة الشرق الإسلامي، بحكم الاستقلال السياسي والجغرافي الذي عرفه المغرب منذ تأسيس دولة الادارسة الى اليوم. كان المغرب مستقلا عن حكم خلفاء الشرق الإسلامي، الأمويين والعباسيين والعثمانيين خاصة، وبالتالي تولد عن ذلك الاستقلال السياسي استقلال فكري وثقافي وديني وفني. كان المغرب على مدى تاريخه امبراطورية لها ذاتها ووعيها الخاصين في استقلال تام عن ذات ووعي باقي الامبراطورية الإسلامية، من حدود الجزائر حتى مشارف بلاد الصين، فشساعة الأرض والامتداد الجغرافي جعل فنون وثقافة باقي الأقطار تتأثر بفنون وثقافات تلك الامم غير العربية، فنجد الآثار الفارسية والتر كية والهندوسية والصينية تلتقي و تختلط مع كل ما هو عربي لتنتج فنا إسلاميا تميز بالوحدة داخل التنوع وبتنوع داخل وحدة.
كان للمغرب فلاسفته و شعراؤه وأدباؤه ، ومذهبه الديني بفقهائه، وكان له فنانوه وفنه، وعمارته المختلفة الاشكال والألوان والتكوينات التزيينية والفضاءات المعمارية، المختلفة أشد الاختلاف عن عمارة الشرق، لا من حيث الأشكال البنيوية (من البناء) ولا من حيث توزيع الفضاء وتأثيثه. وللمغرب أيضا تصاويره وصباغته التي كانت خاضعة لأوامر الإيديولوجيا الدينية وتشددها فيما يخص منع التصوير التشخيصي، فكان المغرب Iconoclaste أكثر من باقي الأمصار الإسلامية الأخرى. والحقيقة أن الوازع الديني لم يكن وحده الدافع إلى تغييب التصوير التشخيصي، بل كان لجمالية الفنون الأمازيغية حظها الأوفر في ذلك.
عكس ما شهدته قصور الأمراء والملوك في الشرق الإسلامي من تصاوير تشخيصية تزين جدران الغرف والحمامات والفضاءات الخاصة، قام بتنفيذها فنانون من أصول غير عربية، كانوا يقيمون تحت راية الدولة الحاكمة أو يتم استدعاؤهم من طرف الخليفة وحاشيته كلما دعت الضرورة إلى ذلك، لم تعرف قصور ملوك المغرب هذا النوع من الفن، – مع استثناءات قليلة خاصة بالسعديين – وكما غاب التصوير التشخيصي (الجداريات الداخلية والمنمنمات…) في الأوساط المغربية، غاب كذلك النحت والتجسيد ذو الثلاثة أبعاد. إن المغرب، عكس دول الشرق العربي لا يتوفر على تراث فني تصويري Figuratif، كبلاد الشام والعراق التي تزخر بالمنحوتات الأشورية والبابلية، والجداريات الناتئة الغنية بالأشكال البشرية والحيوانية، ومصر بتراثها التصويري الفرعوني الرائع.
وهذا الاختلاف في المرجعيات التراثية كان له الأثر الأكبر على تجليات الحداثة الفنية العربية. فتنوع المرجعيات خلق حداثات، لا يتقاسم روادها نفس الرؤى ونفس الاهتمامات. يقول محمد شبعة:” إن هناك فرقا بين التجربة المغربية والتجارب الموجودة في مختلف أرجاء الوطن العربي التي لم يكن مطروحا فيها مشكل الثقافة الوطنية بنفس الطرح الذي تم به أيام معاناتنا مع الاستعمار والغزو الفكري الاستعماري…الشيء الذي جعلنا أكثر استيلابا بالغرب المباشر…مثلا التجربة العراقية تأخذ أصالتها من التراث الآشوري، وهناك عدة اتجاهات فيها، مما يجعلها تبتعد عن وجه من الاستلاب”. (الثقافة الجديدة)
وفي نفس السياق، يضيف محمد المليحي: “التجربة المغربية لا تنتمي لا للوضع العراقي ولا للوضع المصري. فهي تجربة خاصة بدأت انطلاقا من الثقافة الأصلية المغربية التي نحن نرثها بالغريزة.”(الثقافة الجديدة)، إنها تبتعد حتى عما يجري داخل المشهد التشكيلي المغاربي، رغم ما يمكن استحضاره من عناصر الوحدة على مستوى المخزون التراثي والمصائر التاريخية. ” إن هذه التجربة أو الحركة التي عرفها المغرب أنجته من السقوط في نوع من التشكيل مثل الذي يمكن ملاحظته في بعض الدول العربية التي مرت بنفس التاريخ، مثل الجزائر أو تونس”(المليحي، الثقافة الجديدة)
ففي تونس مثلا تشكل “مدرسة تونس” مرحلة انتقالية بين التصوير الكولونيالي والتصوير التجريدي الذي كان في بدايته جد متأثرا بالتيارات الأوروبية، فعمل الفنانون المحليون على “تونسة” اللوحة، حسب تعبير الفنان شفيق غربال، بصب التكوينات التشكيلية في قوالب تراثية تعكس بعض ملامح الفنون الإسلامية، منها الخط العربي والعربسة…

يتبع…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!