فن وثقافة

“الأنثربولوجيا بين دراسة الثقافات والتحليل الاجتماعي”

حكيم سعودي

في عالم مليء بالتنوع الثقافي والاجتماعي، تأتي الأنثربولوجيا كعلم يسعى إلى فهم الإنسان وثقافاته بشكل شامل وعميق. محمد أركون، واحد من أبرز المفكرين المغاربيين،الذي يعتبر الأنثربولوجيا أداة أساسية لفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية في المغرب وخارجه.

تحتل الأنثربولوجيا مكانة هامة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث تهتم بدراسة سلوكيات الإنسان وتفاعلاته مع البيئة والثقافة التي ينتمي إليها. ويعتبر كلود ليفي ستروس، أحد رواد هذا العلم،معتبرًا الأنثربولوجيا تخصصا يهتم بدراسة “الظاهرة الإنسانية”، ويعكس هذا التعريف النهج الشامل للأنثربولوجيا في استكشاف البعد الإنساني والثقافي في جميع جوانب الحياة.

في المغرب، تعتبر الأنثربولوجيا أداة أساسية لدراسة التنوع الثقافي والاجتماعي المتنوع في المجتمع المغربي.و تسعى في المغرب إلى فهم تفاعل الثقافات والتقاليد، وتحليل الصور الذهنية والرموز التي تحكم تصورات الناس وسلوكياتهم.

منذ منتصف القرن العشرين، أصبحت الأنثربولوجيا في المغرب آلية لنقد التمركز الثقافي الغربي واستعادة الهوية الثقافية المغربية. حيث تشكلت مدارس أنثربولوجية في المغرب تعكس التنوع الثقافي والفكري في البلاد، مما يسهم في إثراء المعرفة وتعزيز التواصل بين الثقافات.

من خلال دراسة الأنثربولوجيا، يمكن فهم العديد من التحديات الاجتماعية والثقافية التي تواجه المجتمع المغربي، مثل التقديمات الدينية والاجتماعية، والصور النمطية والأفكار الجماعية. وتوفر الأنثربولوجيا أدوات تحليلية لفهم هذه التحديات والعمل على إيجاد حلول شاملة ومستدامة.

تحظى هذه الاداة بدعم كبير في المغرب من قبل المفكرين والباحثين، الذين يرون فيها أداة أساسية لفهم وتحليل المجتمع وتعزيز التعايش السلمي والتنمية المستدامة.

باختصار، تعتبر الأنثربولوجيا في المغرب جزءًا أساسيًا من البحث العلمي والتنمية الاجتماعية، حيث تسهم في فهم الثقافات والتقاليد وتحليل التحديات التي تواجه المجتمع، وتعزز التعايش السلمي والتنمية المستدامة في البلاد.

“أركون ورؤية متعددة للأنثربولوجيا: بين الثقافة، الدين، والأسطورة”

في رحلته المثيرة في عالم الأنثربولوجيا، استحوذ محمد أركون على اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين بتفرده في اقتحام مجالات متعددة، منها الثقافة، الدين، والأسطورة. ومن خلال نظرته الفريدة، واستنداعه إلى المناهج العلمية الدقيقة، برزت مساهماته في فهم الإنسان وتفاعلاته مع البيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها.

بجانب اهتمام أركون بالأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية، كان لديه اهتمام بالأنثربولوجيا الدينية التي تختلف عن الإثنولوجيا وعلم التاريخ وعلم اجتماع الأديان. تحدد مهمتها الأولى في تحديد ما يميز الرمز المقدس عن الأنواع الأخرى من الرموز، وتسعى إلى فهم الدين بوصفه فاعلاً متغيرًا متحركًا، وتبحث عن الوظائف الكامنة وراء التشريعات الدينية داخل المجتمع.

وبجانب ذلك، فإن أركون ركز على مفهوم الأسطورة، الذي لم يقصد به الحكاية الخالية من الأساس الواقعي، بل التعبير الرمزي عن وقائع تاريخية وكونية، وكان يعتبر القرآن مشحونًا بالنفس الأسطوري، ويدعو إلى ضرورة فهم الأسطورة كجزء من فهم الإيمان والعقيدة.

تشد انتباه أركون الى الحاجة إلى تشكيل أنثربولوجية دينية تسعى إلى مقاربة الأديان التوحيدية بشكل متساوٍ ومن دون خلفيات أيديولوجية، ويعتبر ذلك خطوة ضرورية نحو فهم أعمق للدين ومقاصده ورموزه في مجتمعاتنا.

بهذه الطريقة، كانت مساهمات أركون في مجال الأنثربولوجيا تتجاوز الأبعاد الثقافية لتشمل الجوانب الدينية والأسطورية، مما يثري فهمنا للإنسان وثقافته ودينه وتاريخه بشكل شامل وعميق.

في دراساته القرآنية، استخدم أركون تحليلًا أنثربولوجيًا لفهم مفاهيم ومعاني النصوص القرآنية، حيث سعى إلى استكشاف المرجعيات الأساسية والعلاقات بينها في نص الفاتحة، والتي تشمل الحياة والموت والزمن والحب والقيمة والامتلاك والسلطة والمقدس والعنف. كانت دراسته تركز على الخصائص الرمزية والإيحائية للغة القرآنية، مع الاعتراف بصعوبة التخلص من هذه الخصائص ودورها الحاسم في تفسير النصوص.

وقد أظهرت دراسته أن اللغة القرآنية تتمتع بخصائص تجعلها مفتوحة على معانٍ متعددة، حيث تحمل العبارات القرآنية كثافة دلالية وانفتاحية واسعة. على سبيل المثال، تشير عبارة “الحمد لله رب العالمين” إلى علم الأخرويات، بينما تشير عبارة “إياك نعبد وإياك نستعين” إلى الطقوس والشعائر، وهكذا.

كما أشارت دراسته إلى أن الفكر الإسلامي لم يتمكن من التخلص من الخلفيات اللاهوتية والميتافيزيقية والأخلاقية والمنطقية، وهذا ما عكسته تفسيرات المفسرين للثنائية التقابلية في النصوص القرآنية، مثل “الذين أنعمت عليهم” و”غير المغضوب عليهم ولا الضالين”.

وفي قراءته لسورة التوبة، استخدم أركون “المثلث الأنثربولوجي” الذي يضم ثلاث قوى متداخلة ومتفاعلة هي: الحقيقة، التقديس، العنف. ورأى أن السورة جاءت لتكريس نظام الحقيقة الدينية الجديدة، ولتفرض وجودها بصيغة ثورية، وقام بتحليل النص للكشف عن التناقضات والتمايزات بين الأنظمة الدينية المختلفة.

بهذه الطريقة، قدم أركون تحليلاً أنثربولوجيًا عميقًا للنصوص القرآنية، يسلط الضوء على تعقيدات اللغة والمفاهيم والثنائيات التقابلية، مما يساعد على فهم أعمق لمضامين النصوص وتأثيرها على الفرد والمجتمع.

تحاول الآليات المعاصرة في مقاربة الظاهرة الدينية إيجاد تجليات متعددة وغنية لتجربة الإنسان في التاريخ، دون أن تسعى إلى نقض بنية العقائد. بل تهدف إلى إخراج الدين من أفقه الضيق الإقصائي، وتجعله يحيل على مستوى أوسع ومنظومة معرفية أكثر تفتحًا وأشمل إحاطة، باستخدام النظريات والشروح والتأويلات والاكتشافات العلمية التي أضافتها الحداثة.

تقع جهود أركون في سياق هيمنة العنف السياسي والاجتماعي، وانتشار الجهل المعمم والشامل بماضي الإسلام كدين، إضافة إلى أهمية الاعتناء بأنسنة الإنسان كثقافة وكمدنية. ويتطلب ذلك الاهتمام بالحقل المعرفي واستثمار مفهوماته ومناهجه لتحقيق فهم موضوعي وعميق للظاهرة الدينية ووظائفها وآليات اشتغالها.

باستخدام النهج الأنثربولوجي، يسعى أركون إلى تحليل الظاهرة الدينية وفهمها في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية، مما يساعد على توجيه الاهتمام نحو الجوانب الأكثر تعقيدًا وتفاعلًا في الدين ودوره في تشكيل المجتمعات والثقافات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!