أخبارإقتصادسياسةصحةمجتمع

تحديات الشيخوخة السكانية والعزوف عن الزواج في المغرب: بين الواقع والتحولات الثقافية والاجتماعية

كيف تؤثر الأوضاع الاقتصادية والتغيرات المجتمعية ووسائل التواصل الاجتماعي على مستقبل الأسرة المغربية؟

تشهد المغرب تغيرات ديموغرافية واجتماعية عميقة مؤثرة في بنية المجتمع وأسس الأسرة، حيث تبرز ظاهرة الشيخوخة السكانية بشكل متسارع في المناطق الحضرية نتيجة عدة عوامل مترابطة، من أهمها ارتفاع تكاليف المعيشة، وندرة السكن الملائم، وتأخر الزواج أو العزوف عنه بين الشباب. يشير الواقع إلى أن ارتفاع تكاليف السكن والمعيشة يجعل من الصعب على الشباب تحمل تكاليف تأسيس الأسرة، ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الإنجاب ويزيد من نسبة كبار السن في المدن، التي تشهد تراكماً لعدد المسنين بفضل توفر الخدمات الصحية والاجتماعية مقارنة بالمناطق القروية.
هذا الواقع يرافقه تحولات ثقافية تلعب دوراً في إعادة تشكيل تصور الشباب لمؤسسة الزواج، إذ أصبح الزواج مرتبطاً أكثر بتحقيق السعادة الشخصية والشراكة المبنية على الاحترام والمساواة بين الزوجين، مع تقلص الأدوار التقليدية مثل تعدد الزوجات التي كانت جزءاً من القيم السائدة في الأجيال السابقة. ومن هنا تنبع أهمية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن الكرامة للشباب عبر توفير فرص شغل مستقرة، دعم السكن الميسر، وتمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً، لتشجيع الاستقرار الأسري وتقليل نسب العزوف عن الزواج.

وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً متزايد الأهمية في هذا الإطار، حيث توفر للشباب نموذجاً مطوراً لفهم الزواج والعلاقات الأسرية، لكنها أيضاً تخلق توقعات مثالية وردية قد لا تقابلها الحياة الواقعية، مما قد يؤدي إلى تأخير قرار الزواج أو تردده. مع ذلك، تشكل هذه الوسائل منصة لتعزيز التواصل بين الشريكين، ونشر ثقافة الحوار والاحترام والمساواة، ما يساهم في بناء علاقات زوجية أكثر استمرارية وتوافقاً.
ويتضح جلياً الفرق بين مفهوم الزواج عند الأجيال القديمة، التي كانت ترى فيه مؤسسة اجتماعية متينة ذات أطر تقليدية تشدد على الانتماء القبلي والقيم الجماعية، وبين الشباب الذين ينظرون إلى الزواج كشراكة فردية قائمة على الحرية والحقوق، ما ينعكس على مواقفهم من الإنجاب واختيار نمط الأسرة، ويدفعهم إلى إعادة تقييم هذه الممارسات في سياق تغييرات اجتماعية وثقافية معاصرة.

وفي هذا السياق، أطلقت المندوبية السامية للتخطيط في المغرب في ماي 2025 بحثاً وطنياً موسعاً حول الأسرة، يستند إلى جمع بيانات من آلاف الأسر في مختلف المناطق الحضرية والقروية، بهدف تحليل ديناميات الأسرة المغربية والوقوف على التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها خاصة في ظل تدهور مستوى المعيشة وتأثير البطالة على استقرار الأسر. وقد أظهرت نتائج البحث ارتباطاً وثيقاً بين هذه التحديات وانتقال الشباب إلى تأجيل الزواج والعزوف عنه، ما يؤثر مباشرة على معدلات الإنجاب ويسهم في تسريع الشيخوخة السكانية خاصة في المدن.
هذه المعطيات تبرز الحاجة الملحة إلى تبني سياسات شاملة تدمج بين تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز القيم الإيجابية للأسرة، ودعم الشباب مادياً ومعنوياً، وتشجيعهم على الزواج والاستقرار. كما يستوجب الأمر العمل على تطوير الخدمات الصحية والاجتماعية للمسنين، وتحسين بيئات السكن والعمل، مع الاستفادة من تجارب دولية ناجحة، مثل فرنسا التي وفرت حضانات بأسعار مناسبة ودعماً مالياً للأسر، ودول شمال أوروبا التي منحت إجازة أبوة سخية وسياسات رعاية صحية متكاملة، بالإضافة إلى تجارب كوريا الجنوبية وسنغافورة في تحفيز الزواج والإنجاب ببرامج مالية وسكنية مبتكرة.
إن استلهام المغرب لهذه التجارب وتكييفها بما يتناسب مع خصوصياته الثقافية والاقتصادية يشكل أفقاً واعداً للتعامل مع تحديات الشيخوخة السكانية والعزوف عن الزواج، وتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة تُسهم في بناء مجتمع متماسك ومتوازن قادر على مواجهة المستقبل بثقة وثبات.

اظهر المزيد

حميد فوزي

رئيس التحرير
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!