أخبارفن وثقافةمجتمع

لقاء جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي أو مرج البحرين ..نجيب البكوشي – باحث وكاتب سياسي تونسي

لقد كان على رأسك صخرة كبيرة من غرور عمامتك، وها قد كسرتها. لقد اردت ان ازيل عنك هذا الكِبر، لتعود الى حقيقتك بلا عنوان ولا القاب، تعود كما انت وتنزع عن روحك كل ما يكدرها، وان تُذهب هذه الهيبة المصطنعه لرجال الدين على انهم مقدسون في اعين الناس.

 

ولد جلال الدين الرومي في مدينة بلخ في أفغانستان الآن. يُرجّح ان يكون تاريخ ميلاده في الثلاثين من شهر سبتمبر/أيلول، سنة 1207 ميلادية. والده محمد بن الحسين بهاء الدين ولَد، يُلقّب بسلطان العلماء. كان صوفيا وينتمي روحيا إلى مدرسة الصوفي أحمد الغزالي شقيق الفيلسوف أبي حامد الغزالي، وتأثر كذلك بالصوفي الشهير نجم الدين كُبرى، مؤسس الطريقة الكبرويّة. غادر بهاء الدين ولَد وأسرته مدينة بلخ سنة 1218 أو 1219 ميلادية، بسبب تهديد المغول الزاحفين من آسيا الوسطى، بعد أن أقدم حاكم خوارزم، علاء الدين محمد خوارزم شاه على قتل سفراء بعث بهم له القائد الماغولي الشهير جنكيز خان. قام جنكيز خان ببعث جيش قوامه أكثر من 100 الف جندي لتأديب خوارزم شاه، الذي فرّ إلى خرسان. سقطت بلخ وسمرقند وبخارى وعدة مدن أخرى بين أيدي المغول، وقُتل عشرات الآلاف من الناس وأُحرقت المدن.

جلال الدين الرومي وُلد ونشأ في القرن الثالث عشر ميلادي، وهو قرن جنكيز خان وأولاده وأحفاده، الذين أسسوا على جماجم ضحاياهم في مشارق الأرض ومغاربها ثاني أكبر إمبراطورية في التاريخ بعد الإمبراطورية البريطانية. امتدّت إمبراطورية المغول من شاطئ بحر اليابان إلى الحدود الشرقية لألمانيا الحالية. سنة 1258 ميلادية اجتاح هولاكو، حفيد جنكيز خان، بغداد وقتل المستعصم بالله آخر خلفاء البيت العباسي. ولم يتوقف زحف المغول الا سنة 1270 ميلادية بعد هزيمتهم في معركة عين جالوت في فلسطين على يد مماليك مصر.

المفارقة العجيبة، كما أشارت إلى ذلك المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل، ان هذه الفترة التي اتسمت بالانحطاط السياسي والهزائم العسكرية للمسلمين، شهدت ألقا روحيا كبيرا كان الصوفية هم رواده، فكان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في دمشق، وابن الفارض في مصر، وابي الحسن الشاذلي في تونس ثم الإسكندرية، ونجم الدين كُبري وسعدي الشيرازي وفريد الدين العطار في بلاد فارس.

 

عائلة جلال الدين الرومي عند مغادرتها لمدينة بلخ متوجهة نحو الغرب مرّت بخراسان، وهناك زارت فريد الدين العطار في نيسابور، الذي أدرك نباهة الفتى جلال الدين، واهداه نسخة من كتابه “أسرار نامِه”. بعد ذلك أدت الأسرة مناسك الحج في مكّة، وقد تكون مكثت مدّة في دمشق وحلب في سورية، قبل أن تصل في منتصف عشرينيّات القرن الثالث عشر الميلادي إلى أواسط الأناضول، وكانت تُسمّى بلاد الروم نسبة إلى البيزنطيين، ومنها جاء لقبَه الرومي، لتستقر حوالي سنة 1228 ميلادية في مدينة قونية عاصمة السلاجقة الرّوم بدعوة من السلطان علاء الدين كيقباذ، الذي جمع حوله علماء الصوفية من كافة أنحاء العالم الإسلامي. مدينة قونية ستكون مستقر بهاء الدين ولد وأسرته، وسوف يجعل من الجامع الكبير الذي بناه السلطان علاء الدين كيقباذ مدرسة له.

بعد سنتين توفي بهاء الدين ولد، وتم تعيين ابنه جلال الدين الرومي خليفة له. الشاب جلال الدين الرومي سوف يجعل من أحد مريدي والده، وهو الشيخ برهان الدين محقّق الترمذي معلّما له، هذا الرجل سوف يعمل على تلقين الرومي العلم اللّدِنّي، أي الحكمة الملهمة و الأسرار العميقة للتصوّف. جلال الدين الرومي سيسافر إلى سورية بناء على نصيحة استاذه برهان الدين محقق، وهناك سيلتقي الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، وعدة شيوخ آخرين في دمشق وحلب من حلقة محيي الدين بن عربي منهم سعد الدين الحموي وأوحد الدين الكرماني.

عاد جلال الدين الرومي إلى قونية بعد أن جدّد معارفه الصوفية. بعد مغادرة أستاذه برهان الدين محقق الترمذي إلى قيصريّة، أصبح الرومي اهم قطب روحي وديني في مدينة قونية، ولديه مئات المريدين، وطلاب العلم الذين قدموا من كافة انحاء العالم الإسلامي لينهلوا من معارفه.

في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول سنة 1244 ميلادية، سيلتقي جلال الدين الرومي مع شمس الدين التبريزي، الشخص الذي سيقلب حياته رأسا على عقب. هذا اللقاء كان بمثابة ميلاد جديد لجلال الدين الرومي.

فمن يكون شمس الدين التبريزي هذا؟

 

المعلومات حول شمس الدين التبريزي شحيحة جدا، اسمه شمس الدين محمد بن علي بن مُلك داد تبريزي، حُكي عنه انه انسان ذو شخصية قوية جدا وعلى درجة كبيرة من الإعتداد الروحي، لم يسلم من نقده كبار الفلاسفة مثل فخر الدين الرازي و المتصوفة مثل الشيخ الاكبر محيي الدين ابن عربي.

كان درويشا جوالا هائما بلا مأوى، ينتقل من مدينة إلى أخرى، حتى قيل لكثرة سفره، أنه يُرى في مكانين بوقت واحد. يُلقب بالطائر لأنه لا يستطيع أن يبقى في مكان واحد لفترة طويلة. رجل اتفق كل من تحدّث عنه أن له قوة روحية لا يضاهيه فيها أحد.

شمس الدين التبريزي لم يكن أميا لا يعرف القراءة والكتابة كما ذهب إلى ذلك المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون بل كان حكيما ملمّا بكل معارف عصره من فلسفة وشعر وعلم فلك ورياضيات، وترك كتابا هاما جدا يحمل عنوان “المقالات”، وفيه أمّهات أفكاره التي نقلها في ما بعد لتلميذه جلال الدين الرومي.

 

تقول المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل أنه نُسجت حكايات كثيرة حول اللقاء الأول بين جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، ولكنّها ترجّح الرواية التي تقول؛ أنه عندما كان الرومي راكبا دابته وسط مدينة قونية وحوله مريدوه، أخذ شمس الدين التبريزي بعنان فرسه وسأله: من هو أعظم شأنا؛ النبي محمد أم أبا يزيد البسطامي؟

البسطامي هو أحد اعلام التصوّف عاش في القرن الثالث هجري وعُرف بمقولته الشهيرة “سبحاني ما أعظم شأني”. وهذا ما كتبه جلال الدين الرومي نفسه عن هذا اللقاء الأﻭﻝ بشيخه ﺷﻤﺲ الدين ﺍﻟﺘﺒﺮﻳﺰﻱ.

يقول ﺍﻟﺮﻭﻣﻲ: ﺗﻮﻗﻒ ﻭﺍﺳﺘﺪﺍﺭ، ﻭﺍﺑﺘﺴﻢ ﻟﻲ ﻷ‌ﻭﻝ ﻣﺮﺓ، ﻭﻗﺎﻝ: “ﺣﺴﻨﺎ، ﻗﻞ ﻟﻲ ﺃﺭﺟﻮﻙ، ﻣﻦ ﻫﻮ ﺍﻷ‌ﻋﻈﻢ ﺑﺮﺃﻳﻚ: ﺍﻟﻨﺒﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺃﻡ ﺍﻟﺼﻮﻓﻲ ﺃﺑﻮ ﻳﺰﻳﺪ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﻣﻲ؟”

ﻓﻘﻠﺖ: “ﻣﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ؟ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﻘﺎﺭﻥ ﺑﻴﻦ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼ‌ﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼ‌ﻡ، ﺧﺎﺗﻢ ﺍﻟﻨﺒﻴﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ، ﻭﺑﻴﻦ ﺻﻮﻓﻲ ﺳﻴﺊ ﺍﻟﺴﻤﻌﺔ؟”. ﺗﺠﻤﻊ ﺣﻮﻟﻨﺎ ﺣﺸﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻔﻀﻮﻟﻴﻴﻦ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺪﺭﻭﻳﺶ ﺑﺪﺍ ﻏﻴﺮ ﻣﻜﺘﺮﺙ ﺑﻬﻢ، ﻭﻗﺎﻝ ﺑﺈﻟﺤﺎﺡ ﻭﻫﻮ ﻻ‌ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﺤﺪﻕ ﺑﻮﺟﻬﻲ: “ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﺗﻔﻜﺮ ﺑﺎﻟﻤﻮﺿﻮﻉ. ﺃﻓﻠﻢ ﻳﻘﻞ ﺍﻟﻨﺒﻲ: ﻳﺎ ﺭﺏ ﺍﻏﻔﺮ ﻟﻲ ﻋﺠﺰﻱ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻚ ﺣﻖ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﻣﻲ: ﻃﻮﺑﻰ ﻟﻲ، ﻓﺄﻧﺎ ﺃﺣﻤﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺩﺍﺧﻞ ﻋﺒﺎﺀﺗﻲ؟ ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺭﺟﻞ ﻳﺸﻌﺮ ﺃﻧﻪ ﺻﻐﻴﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺪﻋﻲ ﺭﺟﻞ ﺁﺧﺮ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺩﺍﺧﻠﻪ، ﻓﺄﻳﻬﻤﺎ ﺃﻋﻈﻢ؟”.

ﺑﺪﺃ ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﺑﻘﻮﺓ، ﻓﻤﺎ ﻋﺎﺩ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻳﺒﺪﻭ ﻋﻠﻴﻪ ﻏﺮﻳﺒﺎ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺑﺪﺍ ﻭﻛﺄﻥ ﺣﺠﺎﺑﺎ ﻗﺪ ﺃﺯﻳﻞ ﻭﻛﺎﻥ ﺗﺤﺘﻪ ﻟﻐﺰ ﻣﺜﻴﺮ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ. ﺍﺭﺗﺴﻤﺖ ﻋﻠﻰ ﺷﻔﺘﻲ ﺍﻟﺪﺭﻭﻳﺶ ﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺎﻛﺮﺓ، ﻣﺜﻞ ﻧﺴﻴﻢ ﻋﺎﺑﺮ. ﻭﻋﺮﻓﺖ ﺍﻵ‌ﻥ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﺠﻨﻮﻧﺎ، ﺑﻞ ﻣﺠﺮﺩ ﺭﺟﻞ ﻳﻄﺮﺡ ﺳﺆﺍﻻ‌، ﺳﺆﺍﻝ ﻟﻢ ﺃﻓﻜﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.” “ﺃﺭﻯ ﻣﺎ ﺗﺤﺎﻭﻝ ﺃﻥ ﺗﻘﻮﻟﻪ” ﻗﻠﺖ ﻟﻪ، ﻭﻟﻢ ﺃﺭﻏﺐ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﺮﻋﺸﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻋﺘﺮﺕ ﺻﻮﺗﻲ ﺍﻟﻤﺘﻬﺪﺝ، “ﺳﺄﻗﺎﺭﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﻮﻟﻴﻦ. ﻭﻣﻊ ﺃﻥ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﻣﻲ ﻳﺒﺪﻭ ﺃﻋﻠﻰ، ﻓﺈﻧﻲ ﺳﺄﺧﺒﺮﻙ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ”. ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺪﺭﻭﻳﺶ:” ﻛﻠﻲ ﺁﺫﺍﻥ ﺻﺎﻏﻴﺔ”.

قلت :” ﻛﻤﺎ ﺗﺮﻯ، ﻓﺈﻥ ﺣﺐ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺤﻴﻂ ﻻ‌ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ، ﻭﻳﺤﺎﻭﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺃﻥ ﻳﻨﻬﻠﻮﺍ ﻣﻨﻪ ﺃﻛﺒﺮ ﻗﺪﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ. ﻟﻜﻦ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﺎﻑ، ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻣﻘﺪﺍﺭ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﺠﻢ ﺍﻟﻜﻮﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ. ﻓﻔﻲ ﺣﻴﻦ ﻳﻮﺟﺪ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺑﺮﺍﻣﻴﻞ، ﻭﻟﺪﻯ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺩﻻ‌ﺀ، ﻓﺈﻥ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻃﺎﺳﺎﺕ ﻓﻘﻂ.” ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﻨﺖ ﺃﺗﺤﺪﺙ، ﺭﺣﺖ ﺃﺭﺍﻗﺐ ﻗﺴﻤﺎﺕ ﺍﻟﺪﺭﻭﻳﺶ ﻭﻫﻲ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﻣﻦ ﺍﺯﺩﺭﺍﺀ ﺧﻔﻴﻒ ﺇﻟﻰ ﺷﻜﺮ ﻭﺍﺿﺢ، ﻭﻣﻨﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺭﻗﻴﻘﺔ ﻟﺸﺨﺺ ﻳﺮﻯ ﺃﻓﻜﺎﺭﻩ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺎﺕ ﺷﺨﺺ ﺁﺧﺮ.

“ﻛﺎﻥ ﻭﻋﺎﺀ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﻣﻲ ﺻﻐﻴﺮﺍ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺸﻲﺀ، ﻭﻗﺪ ﺭﻭﻯ ﻋﻄﺸﻪ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﻬﻞ ﺟﺮﻋﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﺳﻌﻴﺪﺍ ﺑﺎﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻠﻐﻬﺎ. ﻛﺎﻥ ﺷﻴﺌﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﺃﻥ ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻹ‌ﻟﻪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﻭﺣﺪﺓ ﺍﻟﻨﻔﺲ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻨﺒﻲ، ﻓﻘﺪ ﺍﺧﺘﺎﺭﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻟﺪﻳﻪ ﻛﻮﺏ ﺃﻛﺒﺮ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻟﻜﻲ ﻳﻤﻸ‌ﻩ. ﻟﺬﻟﻚ ﺳﺄﻟﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ: ﺃﻟﻢ ﻧﺸﺮﺡ ﻟﻚ ﺻﺪﺭﻙ؟ ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺷﺮﺡ ﺻﺪﺭﻩ، ﻭﻛﺎﻥ ﻛﻮﺑﻪ ﺿﺨﻤﺎ، ﻛﺎﻥ ﻋﻄﺸﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﻄﺶ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ. ﻭﻻ‌ ﻋﺠﺐ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ:”ﺇﻧﻨﺎ ﻻ‌ ﻧﻌﺮﻓﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻌﺮﻓﻚ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻛﺪ ﺃﻧﻪ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻛﻤﺎ ﻻ‌ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺷﺨﺺ ﺁﺧﺮ”.

 

بعد هذا الجواب من جلال الدين الرومي على سؤاله، صاح شمس الدين التبريزي صيحةً عظيمة ثمّ وقعَ على الأرض، لقد وجد أخيرا خلّه وتوأم روحه. أما جلال الدين الرومي فيتحدّث عن وقع هذا اللقاء على نفسه فيقول:” أحسست أن هوة فتحت في قمة رأسي، وانبعث منها دخان تصاعد الى عرش السماء.” ذلك اليوم كان بمثابة ميلاد جديد بالنسبة إليه، فلم يُرَ بعد ذلك اليوم إلا بصحبة شمس الدين التبريزي. هجر دروسه ومريديه والناس جميعا، وظلّ الصوفيان متلازمين على امتداد أشهر، ممّا جعل تلاميذ الرومي يصابون بصدمة وهم يرون شيخهم المبجّل ينعزل عنهم تماما ويرافق هذا الدرويش الجوّال مثل ظلّه.

 

يذكر الأفلاكي في كتابه” مناقب العارفين”، أن شمس الدين التبريزي كان يُخضع جلال الدين الرومي لتربية روحية قاسية جدا، فطلب منه مرّة، أن يضع ملابسه الفاخرة وعمامته، ويذهب ليجلب له جرّة خمر من الحي اليهودي في مدينة قونية. فدار بينهما الحوار الآتي:

قال الرومي :كيف أُقدم على هذا الفعل المحرّم وأنا مفتي المدينة ؟

فقال له شمس :كما تشاء ..

فقال الرومي :اطلب مني شيئا اخر…

فقال شمس: لا اريد غير هذا …

ظلّ الرومي يُفكّر في الأمر الليل كلّه ثم وافق…

وفي اليوم الموالي وضع ملابسه وعمامته وذهب في وضح النهار واشترى جرّة خمر من الحي اليهودي، ومرّ بها وسط المدينة.

بعض الناس قالوا جُن الرجل والبعض الآخر قالوا إنه منافق لقد فضحه الله! وهذه حقيقته.

عاد الى شيخه شمس الدين التبريزي ومعه جرّة الخمر وهو منكسر ذليل!

وقال لشيخه : ماذا بعد هذا؟

فقال له التبريزي :

هذا يكفي، ألقِ جرّة الخمر وأغسل ثيابك، وتطهر. ثمّ أردف له قائلا : يا جلال الدين؛ أنت الآن كنبتةٍ صغيرة ،لقد كان على رأسك صخرة كبيرة من غرور عمامتك، وها قد كسرتها. لقد اردت ان ازيل عنك هذا الكِبر، لتعود الى حقيقتك بلا عنوان ولا القاب، تعود كما انت وتنزع عن روحك كل ما يكدرها، وان تُذهب هذه الهيبة المصطنعه لرجال الدين على انهم مقدسون في اعين الناس.

لا تغتر بعلمك او عبادتك ولا تزكي نفسك على العباد. رُبّ عاص نادم خير عند الله منك!!!!

غضب أهل قونية من شمس الدين التبريزي غضبا شديدا، و اتهموه بأنه ألهى شيخهم جلال الدين الرومي عن سيرته كفقيه، وجعله غارقا في التصوف.أحس شمس الدين بحقد القونيين عليه، فغادر المدينة دون أن يُعلم أحد عن وجهته، وتحطم قلب جلال الدين الرومي من بعده، صار ينزوي ولا يتكلم إلا عن شمس. الرومي الذي كان يمقت الشعر والشعراء أصبح ينشد حرقته على فراق شيخه شعرا فيقول :

“أين الصبر؟ فلو كان الصبر جبل قاف المحيط بالدنيا لتبدّد كالثلج بشمس الفراق!”. فتَّش جلال الدين الرومي عن شيخه شمس الدين التبريزي في كل مكان، حتى جاءه الخبر بأنه في دمشق، فأرسل ابنه سلطان ولد ليأتي به، واستجاب شمس لرغبته وعاد إلى قونية. جلال الدين الرومي سيزوّج شمس الدين التبريزي من ربيبته “كيميا” ليكون قريبا منه، لكن زواج شمس الدين من كيمياء سيثير غيرة ابنه الأصغر علاء الدين الذي كان معجبا بكيمياء، وسيقوم علاء الدين بتحريض تلاميذ والده وأهل قونية ضد شمس الدين التبريزي وسيشتدّ هذا السُخط خاصة بعد مرض “كيمياء” ووفاتها، بعدها مباشرة توارى شمس عن الأنظار ولم يعد إلى قونية مطلقا، اختلفت الروايات حول مصير شمس الدين التبريزي، لكن الأفلاكي في كتابه “مناقب العارفين” يؤكّد ان شمس الدين التبريزي قد قُتل في ليلة الخامس من ديسمبر/كانون الأول سنة 1248ميلادية.

تحاول المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل في كتابها الشمس المنتصرة إعادة تركيب فصول هذه المأساة فتقول؛ “تحادث الرومي وشمس حتى ساعة متأخرة، عندما قرع أحدهم على الباب وطلب من شمس الخروج لشأن من الشؤون، مضى شمس، وطُعن، ثم أُلقي به في البئر أمام المدخل الخلفي للبيت، وهي بئر لا تزال ماثلة إلى اليوم . أُخبر سلطان ولد الإبن الأكبر لجلال الدين الرومي بالفعل، فأسرع لإخراج الجثّة من البئر ودفنها في قبر حُفر سريعا قرب المكان…” ثم تشير آن ماري شيمل أن الحفريات الأخيرة أثبتت وجود هذا القبر وأكدت رواية الأفلاكي. سلطان ولد سيُخفي الأمر عن والده جلال الدين الرومي، ولكنّ يُستشف من أشعاره الحزينة إحساسه بهذه المأساة ودور ابنه علاء الدين في هذه الجريمة البشعة، حتى أنه رفض حضور جنازته عند وفاته سنة 1260 ميلادية.

اللقاء بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي الذي يُطلق عليه مرج البحرين، قورن بلقاء سقراط بأفلاطون في الفلسفة اليونانية، سقراط لم يدوّن شيئا وتلميذه أفلاطون هو الذي نقل لنا أفكاره في مؤلفاته، كذلك شمس التبريزي كلّ ما عرفناه حوله كان من خلال تلميذه جلال الدين الرومي ومصير شمس التبريزي يشبه إلى حد كبير مصير سقراط فكلاهما تجرّع كأس سمّ أولائك الذين لم يفهموا نور أفكاره.

لوعة الفراق سوف تفجّر ينابيع الإبداع عند جلال الدين الرومي، وكما قال متحدّثا عن نفسه: “صار الشيخ بسبب الفراق مجنوناً .. وصار المفتي بسبب العشق شاعرا”.

هذا الشاعر سوف يُهدي للأدب الإنساني ديوان “المثنوي”، هذا الأثر الرائع الذي يسمّيه بعض النقاد بالقرآن الفارسي.

 

✍ نجيب البكوشي – باحث وكاتب سياسي تونسي

 

|| Midline-news || – الوسط

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!