فن وثقافة

“سيمون دي بوفوار: رمز النضال من أجل حقوق المرأة والحريات الفردية”

حكيم سعودي

المرأة، هذا الكائن الرقيق، الذي لطالما حتاج إلى الدعم والدفاع عنه بإصرار. عبر السنين، نشأت حركات نسائية عالمية، نابعة من مبادرات نساء ورجال يؤمنون بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وبضرورة مشاركتها في جميع المجالات ورفع مستوى حريتها في كل النواحي.
من بين المدافعين عن هذه الأفكار، نجد الفيلسوفة والكاتبة “سيمون دي بوفوار” (1908-1986). استحضرت سيرتها الذاتية لنلمح نظرة عميقة على حياة امرأة غربية في مجتمع ذكوري صارم، لنفهم الدوافع التي جعلتها من قادة الحركة النسائية العالمية، من خلال كتاباتها وتجربتها الشخصية. علمتنا بوفوار أن من يسعى لتغيير العالم أو وجهة نظر الناس في موضوع ما يجب أن يبدأ بتغيير ذاته أولاً، وأن يترجم هذا التحول الشخصي إلى أفعال وأخلاق يتبناها.
تظهر أفكار ومبادئ الإنسان كما هي عرضة للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة به. بوفوار توضح دور هذه الظروف في تشكيل شخصيتها وتوجيهاتها، مما جعلها داعمة قوية لقضايا النساء، من خلال الدراسة والتحليل ودفع المجتمع نحو النقاش حول قضاياه الاجتماعية، مما يمكنه من الوصول إلى حلول عملية تتلاءم مع كل مجتمع واعتقاداته، مع مراعاة الحقوق العالمية الموحدة التي تضمن الحماية والمساندة للمرأة من النواحي الأخلاقية والمادية.
تزايدت “سيمون دي بوفوار” سنة 1908 في أسرة ذات أصول أرستقراطية، وكان والدها محاميًا من عائلة ثرية، حيث كان أحد أجدادها من مؤسسي جامعة باريس في القرن الثاني عشر.
على غرار بقية فتيات جيلها، تم تربيتها وفقًا للمعتاد في تلك الحقبة، حيث كانت الفتاة الثرية تُربى لتكون زوجة مثالية ومطيعة لرجل من نفس طبقتها الاجتماعية. في سن الرابعة، بدأت في تعلم القراءة، وكانت موهوبة جدًا، مما أثار اهتمام والدها الذي قرر توجيه تعليمها نحو الكتب ذات التوجه الليبرالي إلى جانب الكتب الدينية التي كانت والدتها تحرص على دراستها.
درست في مدرسة دينية مخصصة لفتيات الطبقة الأرستقراطية، ولم يُجبرها ذلك على قبول جميع الأفكار التي تلقن لها. كانت تلميذة عنيدة تناقش بدون خجل كل الأفكار المطروحة، حتى في سن مبكرة. كان لها صديقة في المدرسة، رافقتها حتى الجامعة من نفس طبقتها الاجتماعية. أحبت شابًا من الطبقة المتوسطة، لكنهما لم يتمكنا من الزواج بسبب الفوارق الاجتماعية، وانتهت القصة بوفاة صديقتها، ما أثر بشدة في حياتها الشخصية ودفعها إلى التفكير العميق والاصطدام بالقوانين والفوارق الاجتماعية.
كانت علاقتها بالفيلسوف “سارتر” منذ بداية دراستها بالجامعة بداية قصة حب مرتكزة على الحوار الثقافي، أثرت كثيرًا في مسارها النضالي. لم تنتهي القصة بالزواج، ولكن بموت الفيلسوف.
تعرف “سيمون دي بوفوار” نفسها بأنها كاتبة بدلاً من فيلسوفة، حيث كانت تركز في أعمالها على علاقة المشروع الحياتي للفرد وعلاقته بالعلاقات الإنسانية مع الآخرين، محللة بذلك العلاقة بين التجربة الشخصية والحقيقة العالمية، وعن وحدة المشروع الإنساني لشخص ما ومبتغاه وما يطمح للوصول إليه.
كانت أفكارها تتقاطع أحيانًا مع أفكار سارتر وديكارت في أن حرية الإنسان شيء لا متناهي لكنها مقيدة بالظروف الحياتية المجتمعية التي يعيشها الشخص، والتي من الممكن أن تزيد أو تقلل من حريته. كانت حريصة على احترام حريات الآخرين وإجبار الآخرين على احترام حريتها، في زمن كان دور المرأة يقتصر عادةً على دور الزوجة، الأم، الأخت، أو الابنة المطيعة.
من أهم ما تطرقت إليه كان ما سمته “القمع الأخلاقي”، حيث جعلت من القامعين أشخاصا يعتقدون فقط بأفكارهم ويتقيدون بها، حيث يجدونها شيئا طبيعيًا، وما غير ذلك من أفكار لا يتقبلونها. وهذا الأمر يدفع المقموعين إلى استخدام العنف كوسيلة بديلة لمناهضة الرأي الواحد، فيصبح العنف تناقضًا أخلاقيًا لا يمكن تجنبه.
لـ “سيمون دي بوفوار”، كانت الحرية لها كشخص خاصة وكإنسانة عامة مسؤولية يجب تحملها في إطار حراك دائم وبنّاء، وليس بحراك سلبي مع رفض القمع لنفسها ولغيرها. اعتبرت أن حريتها تكتمل بحرية الآخرين.
أهم عمل فلسفي تميزت به هو كتابها “الجنس الثاني” الذي نشرته في عام 1949، حيث تناولت الظروف الاجتماعية والثقافية والتاريخية للمرأة الغربية، وخاصة الفرنسية. كانت بحثًا في ظروف المرأة الغربية من خلال تجربتها الشخصية، وسألت عن معنى أن تكون امرأة، والقمع الذي كانت تعيشه النساء والتفرقة بينهم وبين الجنس الآخر.
وصفت العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك الوقت كعلاقة العبد بسيده، كظل الرجل، ودعت إلى علاقة موازية لها. كانت أول من استعمل وصف المرأة بـ “جنس ثاني”، والذي تحدث عنه سارتر فيما بعد في كتابه “نقد السبب الجدلي”.
كتاب “الجنس الثاني” كان من أهم المراجع للحركة الدولية لتحرير المرأة في الولايات المتحدة. ومن أهم أعمالها الفلسفية أيضًا “الشيخوخة”، حيث سلطت الضوء على مرحلة جد مهمة من مراحل عمر الإنسان، وعرضت المشاكل المادية والصحية التي يعيشها كبار السن.
لم تعتبر نفسها يوما مناصرة لحقوق المرأة فقط، بل جعلت من طريقة عيشها ودفاعها المستميت عنها عن طريق رصد أولا الاختلالات الاجتماعية التي تقيد حريتها، وبالتالي محاولة إيجاد حلول ومسارات يمكن لباقي النساء تبنيها. لم تترك مجالًا لم تتطرق إليه كالعمل المنزلي للنساء، والذي كان في مجتمعها آنذاك يعتبر مسؤولية المرأة وليس الزوج، حتى وإن كانت المرأة تشتغل خارج البيت وتساهم في مصاريف البيت، وهذه المساهمة أحيانًا تفوق مساهمة الرجل.
تعتبر مثالا للمرأة المناضلة من أجل الدفاع عن الحريات الفردية للإنسان بشكل عام وللنساء خاصة، في وقت لم تكن فيه المرأة في أوروبا سوى ظلاً للرجل ووسيلة لإسعاده. في مرحلة كان خروج أوروبا من حلم فظيع لحروب ضارية مع الأنظمة الديكتاتورية آنذاك ظرفًا صعبًا للمجتمع باكمله. بدأت بوادر ظهور نواة المجتمعات الديموقراطية التي لم تكن لتنجح بدون ادماج المرأة فيها واعتبارها شخصًا موازيًا للرجل وليس جنسًا من الدرجة الثانية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!